الجمعة 2017/07/28

آخر تحديث: 17:58 (بيروت)

حجرة تموز وحذاؤها

الجمعة 2017/07/28
حجرة تموز وحذاؤها
حرب تموز 2006
increase حجم الخط decrease
قال أخي أن لا شيء قد يقصفه الاسرائيليون في جوارنا، قال ذلك، ونظر إليّ كأنه يطلب مني أن أنام مطمئناً. صدقته، صدقت عبارته، التي صارت وسادةً، ألقيت برأسي عليها. لكن، وما أن فعلت هذا، ما أن غفوت، حتى قامت القيامة، وتشقلبت الدنيا.  
رمت الطائرة بصاروخها على مقربة من منزلنا، وهو حين انفجر، رمانا، كل من مكانه، الى الممر، حيث تجمعنا فجأةً، ولما لحقه صاروخ ثان، وانفجار ثان، لم نعد نسمع صراخنا، وأسرعنا الى الحجرة الضيقة تحت الدرج. في هذه الحجرة، كانت العتمة مطبقة، ومن شدة خوفنا، لم نرفع أصواتنا، تهامسنا لساعات حتى طلع الصباح، وعرفنا حينها أن الأيام الآتية ستكون بمجملها مدموغة بالأرق.

بعد تلك الليلة، كنت كلما أغمض عينيّ، أعود وأسمع دوي القصف. بقيت على هذه الحالة لأيام، خلالها، لم أكن أهجس سوى في أمر بعينه: إذا حصل ونزل الصاروخ على بيتنا، كيف سنهرب؟ ذلك، أننا حين ذهبنا، أخي وأنا، لنعاين المبنى الذي استهدفته الطائرة بالقرب منا، رأينا الأرض محروقة ومزروعة بالركام، وعندها، لم نتردد في الاعتقاد بأن النجاة حقاً مستحيلة. 

لم أتوقف عن الهجس في هربنا، ولذلك، قررت ألا أبارح الحجرة تحت الدرج، لا سيما بعد حلول المساء، أما في أثناء النهار، فأخفف ذعري بالتفوه ببعض الكلام، أو بالإصغاء اليه، وأحياناً، أحمل رواية وأقرأ. إلا أن كل هذا لم يبدد هاجس الهرب، الذي، ولما كنت أحدق في وجوه والدتي وأخوتي، أشعر به مكتوماً، ولا أحد منهم يفصح عنه. فبحسبهم، لا مكان لنهرب إليه، وبالفعل، حين فر الجيران والأقارب من لبنان، لم ينتبهوا الى وجودنا، فروا هكذا، بلا أي سؤال عنا، ما جعلنا غريبين، غريبين جداً، لا صلة لنا بنجاتهم، ولاحقاً، باحتفالهم بما أجمعوا على كونه "انتصاراً".

وأن أُدرك أن النجاة مستحيلة، وأن الموت قد يحدث في أي لحظة، فهذا ما دفعني الى التعلق بأفعال، اعتقدت بأنها تعينني على التخلص من ذعري، ذلك، على الرغم من معرفتي بأن ما اعتقده ليس سوى ضرب من الوهم. فغير الإعتصام بحجرة تحت الدرج، كنت لا أخلع حذائي، الذي انتعلته طوال شهر تقريباً. فهذا الحذاء، وكان لونه أبيض، كان حصني الوحيد، بحيث أني لم أتوقف عن التفكير في أنه، ولما تقصف الطائرة منزلنا، سيساعدني على الإسراع في الهرب.

لم نهرب، وحتى عندما انتقلنا للعيش عند أصدقائنا، فقد فعلنا ذلك خلال الهدنة، وما أن جرى استئناف الحرب، حتى رجعنا الى المنزل، ومضينا ننتظر. ولما قصفت الطائرات في جوارنا من جديد، حسبنا أنها "ضربتها" الأخيرة. أما حين أُعلن توقف الحرب عند الثامنة صباحاً، قررت وداعها في الحجرة إياها. لم يشاركني أحد الجلوس فيها، قعدت، وتمددت، ولما نال مني النعاس، استيقظت شبه مختنقاً لأن نسيت بابها مغلقاً. 

فتحت الباب، وكانت الحرب قد انتهت. لكني، وعلى الرغم من ذلك، لم أخلع حذائي إلا بعد مرور أكثر من يوم على نهايتها. أخي أكد لي أنها انقضت، غير أني لم أصدقه، ظناً مني أن الطائرات قد تعود وتقصف. وبالفعل، لما علت رصاصات "الإنتصار" وقذائفه، اعتبرت، للحظة، بأن الحرب رجعت واندلعت، وللحظة أيضاً، اعتبرت بأنه عليّ أن أسرع الخطى الى الحجرة تحت الدرج، وألا أغادرها البتة.

فهذه الحجرة، التي ما زال الدخول إليها حتى الآن يثير فيّ نوعاً من القلق، القلق المضحك تحديداً، كانت خلال "حرب تموز"، مكاني الذي، ولأن القصف لم يطاول المنزل، كان بمثابة مسقط رأسي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها