الأربعاء 2017/06/21

آخر تحديث: 16:22 (بيروت)

امرأة مستقلة في القاهرة

الأربعاء 2017/06/21
امرأة مستقلة في القاهرة
increase حجم الخط decrease
قبل نحو 14 عاماً تركت دفء عائلتي، من أجل الدراسة في القاهرة، فقضيت خمسة أعوام هناك في رحاب السكن الجامعي. أسِرَّة متهالكة، طعام سيء ونيء، ومعاملة رديئة، كما لو كنا خدماً، مع نظرات دونية من العاملين في الجامعة.


قبلت، كمئات من بنات جيلي، تحديات عديدة من أجل أن ننجح في قاهرة المعز. لم يكن السكن الجامعي سوى إحدى مآسينا، فالوضع فيه لم يكن يختلف عن السجن العادي إلا في إتاحة الخروج منه في السابعة صباحاً، شرط العودة إليه قبل الثامنة مساءً، وألا نصطحب أحداً من خارج أسواره وأن نلازم غرفنا يومياً في العاشرة مساءً كي يتأكد مشرف ما من وجودنا في غرفنا، مشمولين برعاية شكلية من أحد عناصر الأمن على أسوارها، في مقابل ايجار شهري زهيد يتناسب مع دخل فتيات بالكاد يحصلن على مصروفهن من العائلة.

ليس من السهولة أن تستقل شابة في القاهرة، وتكافح لتبقى حية. بعض العائلات يعتبر استقلال الفتاة عقب الجامعة، أمراً ضد تقاليدها، فالتسلسل الطبيعي بعد التخرج سيكون الزواج بالطبع، إلا أن من يتأخر زواجها، والتي إضافة إلى تحملها إلحاح العائلة الدائم للزواج، ستكون مجبرة على العمل لتنفق على نفسها من مالها الخاص.

لا إحصائيات رسمية تشير إلى عدد الفتيات المستقلات في القاهرة، إلا أن دراسة سابقة تشير أن قرابة خمسة ملايين مواطن يستقلون القطارات صباحاً ليصلوا القاهرة قادمين من الأقاليم المجاورة.

تبدأ معاناتنا كفتيات مستقلات، من البحث عن السكن، ما بين أبواب "سماسرة" تغلق في وجوهنا وسباب نتلقاه واتهامات بالفحش والبذاءة. أحياناً كنا نجد سكناً بسعر جيدة إلا أن مالكيه يرفضون إقامتنا فيه كوننا فتيات سنجلب الفضيحة والقيل والقال للشارع. تعرضنا لاستغلال مالكي المنازل، يرفعون قيمة الإيجار وقتما يشاؤون ويمنعوننا من دخولها، متسببين في تنقلنا بين مساكن رديئة لا تليق بالحيوانات. تهوئة سيئة وفرش قديم صدئ ينخره السوس، وجدران بطلاء داكن متآكل بفعل الرطوبة والاهمال وذكريات أعوام مضت حفرها ساكنون سابقون.. كل هذا من دون رقابة جهات رسمية أو حماية منها.

تعرضتُ لمضايقات كثيرة، وكذلك صديقات لي. نظراتهم القاتلة كأنها تعرينا من ملابسنا، باحثين داخل نفوسنا عما يؤكد لهم صحة شكوكهم السيئة فينا. فلم يكن من حقنا أن نضحك بأصوات عالية حتى لا يسمعنا الجيران ويطرقوا بابنا، محذرين، بعد تلصصهم علينا ليلاً ونهاراً.

ومع كل ضائقة مالية كنا نمر بها، كان من المستحيل بالنسبة لنا أن نقترض من العائلة، لنثبت لهم أن اختيارنا بالاستقلال كان صائباً وأننا نستطيع تدبر أمورنا جيداً ونستطيع النجاح بعيداً من الكفالة التي ينعمون علينا بها.

أيام وشهور تمضي على الفتاة المستقلة، ولا أحد يعلم أن طعامها وجبة واحدة في اليوم، وربما تقضي يومها متنقلة بين الفاعليات التي تقدم الوجبات المجانية بعد نقاشات طويلة بالساعات، وربما تقضي ليالي وليس في ثلاجتها رغيف خبز واحد، هذا إن كانت تمتلك ثلاجة من الأساس، لأن الثلاجة مع مرور الوقت ستصبح من الرفاهيات.

يظن الناس أن المرأة المستقلة في القاهرة ما هي إلا باحثة عن الحرية الجنسية، متناسين أن فرص العمل والنجاح قليلة في قرانا النائية ومحافظاتنا. وكان أقل ما صادفناه أن نكون رجل البيت وسيدته في آن واحد. فنحن من نتدبر أمر أعطال الكهرباء والمياه والغاز وغيرها، من دون أن يعيننا أخ أو أب أو قريب، ونتدبر أمر طعامنا بأنفسنا، فإن كان بنا مرض أو إرهاق، فلا طعام يؤكل.

المرأة المستقلة اعتادت أن تربت يدها اليسرى على اليمنى وقت الحاجة، وأن تكفكف دموعها ووجعها بيدها لا بيد غيرها، وأن تطلب الدعم النفسي من نفسها والدعم المادي من صبرها وعملها الخاص، وأن جدران منزلها القاتم على نفقتها الخاصة، وأن تحنو على نفسها بفسحة كلما سنحت الفرصة وتوفر من راتب كل شهر ما يعين على ذلك.

في أوقات كثيرة تنام المرأة المستقلة بعَين نصف مغمضة، خوفاً من نقرة على بابها في منتصف الليل من عابر سبيل، وربما يقلقها هرج ومرج في الشارع لا يخصها، كونها بلا "رجل" يحميها، في مجتمع يخاف المرأة بصحبة الرجل. أما إذا كانت المرأة نفسها وحدها، فلا يخافها بل قد يعتدي عليها. وربما يقرر صاحب العقار أن يقفز في سواد الليل أو فجر الصبح من نافذة الحمام ليتأكد من قراءة عداد الكهرباء أو الغاز بنفسه، بعدما يئس من استيقاظنا على طرقاته.

في بعض الأوقات تحارب المرأة المستقلة كثيراً لتحافظ على وظيفة لا ترغب فيها، خشية أن تجد نفسها بلا عمل في اليوم التالي، متحملة في سبيل ذلك سخافات مدير غير كفوء وغير مسؤول. وربما تترك عملاً تحتاج قروشه القليلة، بسبب تحرش مديرها بها، أو بسبب محاولات إخضاعها لعلاقة جنسية عابرة، كونها لقمة سهلة بعيدة من حماية العائلة.

خلال الأعوام القليلة الماضية، ظهرت مجموعات فايسبوكية تجمع المستقلات والساعيات للاستقلال بعيداً من الأهل، وتتلخص أسبابهن في الرغبة في الاستقلالية. حديثي ليس نتيجة دراسة بحثية، لكني رصدت في قصصهن نسبة كبيرة ممن ينشدن الحرية والهاربات من حصار العائلة ومن تدخلات بلا معنى في الوظيفة والأصدقاء والشكل والملبس وطريقة التفكير والتعامل مع المقربين وطريقة إدارة الحياة الخاصة.

وتصل تلك القصص أحياناً إلى الحديث عن العنف الذي تتعرض له الفتاة الرافضة لتدخلات العائلة في حياتها، وهو عنف أودى بحياة فتيات حُبسن وضُربن. منهن من أقدمت على الانتحار، ومنهن من هربت من دون جنيه واحد ومن دون "جاكيت" على جسدها، فراراً من سوء المعاملة، ومنهن من تجبر على الزواج في نهاية المطاف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها