الثلاثاء 2017/02/21

آخر تحديث: 14:34 (بيروت)

أنا وحسين ودفتر السواقة

الثلاثاء 2017/02/21
أنا وحسين ودفتر السواقة
increase حجم الخط decrease

"قديش إلي معك؟"، قال حسين، مبادراً إياي بعد سلامي عليه وتعريفي بنفسي. طبعاً لم يرد السلام.
قلت له: "ما بعرف.. قال لي صديقنا المشترك أنه هو بيحاسبك".
أجاب حسين: "لا لا.. احكي معه".

نظرت إلى الساعة، السادسة إلا عشر دقائق، صباحاً. ترددت لحظة قبل أن أهاتف الصديق المشترك، الذي قال بين تثاؤبين: "اكبسله إيده بـ120 ألف".

ابتسم حسين للمرة الأولى والأخيرة، وهو يضع النقود في جيبه، في ذلك الصباح الماطر.

السيارة التي يحاول تشغيلها، "غولف"، لا يقل عمرها عن ربع قرن، تتمنع عن الإقلاع في هذا البرد. يضغط على دعسة البنزين لمرات، قبل أن يعيد التشغيل. رغم المطر، الغبار ينبعث من السيارة المهترئة. وبعد محاولات متعددة، يهدر المحرك بصوت عال، فالليرنتين مرفوع إلى أقصى حد، كي لا ينطفئ المحرك فجأة أثناء قيادة المرشحين لنيل "دفتر السوق" أمام "اللجنة الفاحصة".

لا بيروتي إلا وله حكاية مع مركز الفحص في الأوزاعي، على أطراف الضاحية الجنوبية من بيروت. فالعبور من هنا اجباري لمن يريد قيادة سيارة في لبنان حيث تعداد السيارات الأكبر عالمياً بالمقارنة مع عدد السكان. قد يكون مركز فحص السَّوق في الأوزاعي، مجرد مصادفة، لكن أن يكون معظم القائمين على مكاتب التدريب وربما "اللجنة الفاحصة" من مناصري أحد قطبي الثنائية الشيعية في لبنان، فهو الأمر الأكثر طبيعية، في بلد قائم على المحاصصة.

"الشغلة منجم ذهب"، يقول سائق التاكسي، أبو علي، الذي أقلني إلى هناك، وصودف أنه عمل مدرباً في السابق مع أحد مكاتب تعليم القيادة. وحين أخبرته عن زيارتي السابقة، وسوء تعامل بعض أصحاب المكاتب، همهم أبو علي، ثم قال: "مش ممكن ارفع صوتي بوج حدا، ولا قول كلمة مش منيحة لمتدرب أو متدربة". ثم أردف بحذر: "صح أني ابن الضاحية، بس ترباية الأشرفية".

ضحكتُ مرتبكاً، مردداً تلك التعويذة القديمة: "يا عم كل الناس خير وبركة".

لكن ذلك اليوم الماطر، وما جرى في امتحان القيادة، أقنعني بأنه ليس كل الناس كذلك.. على الأقل حسين ليس خيراً ولا بركة.

فبعدما أعطيته "كبسة اليد"، وأحمى السيارة، قال لي: "طلاع".

جلستُ في تلك الخردة التاريخية. لا مرايا. الدركسيون بالتأكيد ليس هيدروليكياً، لكن من الممكن أن يكون أقل يباساً. دعسة الدبرياج مرفوعة إلى الاقصى. وباستثناء مقعد السائق، بقية السيارة عبارة عن مخزن قطع غيار، والزيت يرشح من الفَرش، والغبار يتطاير ويزكم الأنف. ومع تكاثف بخار الماء على النوافذ، كان الحل الوحيد لتلافي المشكلة مع النافذة الخلفية، هو فتحها ورفعها بقطعة خشب طويلة. خمس سيارات متماثلة في حلبة الامتحان، طوّر اصحابها الحلول ذاتها، للتحديات المشتركة. السيارات الخمس كانت ترفع صناديقها الخلفية وتثبتها بقطع خشب متماثلة.

لكن حسين لا يتكلم، فقط يصرخ، والسبب دائماً غير واضح..

فبعد دقيقتين فقط من محاولتي التعامل مع هذه البهيمة المعدنية، صرخ مجدداً: "زهقتني.. زهقتني.. هيك جاي تسوق.. هلق راح تقتله لرئيس اللجنة".

نظرتُ إليه وضحكت، فلم تكن لدى وسيلة أخرى للدفاع، وبت أردد لنفسي: "هذا الشخص عدواني.. هذا الشخص غير طبيعي.. مشكلته ليست معي.. لا شيء شخصياً.. لا شيء شخصياً".

أنزلني من السيارة، بكلمة: "انزيل"، قبل أن أقطع مسافة عشرة أمتار، ليصعد إليها متدرب آخر.

وقبل أن يبدأ الفحص، في تمام الساعة السادسة ونصف، كان أربعة متدربين قد تداوروا على الصعود إلى سيارة حسين، وبينهم صبية واحدة كانت قد تدربت عنده سابقاً، والبقية تعرفوا عليه وطباعه وسيارته، للمرة الأولى، في ذلك الصباح. ثلاثة متدربين "كبسوا يد" حسين.

صراخ حسين على المتدربين الذكور، تحوّل بعد دقائق أمراً طبيعياً، على الأقل بالنسبة إلي. فقط مع الصبية، تحول حسين شخصاً لطيفاً، و"انكَتَم" صراخه لدقائق.

ومع وصول "اللجنة الفاحصة"، انتظمت تلك السيارات الأخوات، القادمات من ذاكرة الصناعة والمكننة، فجأة، في صف واحد. أصحاب السيارات، ومدارس تعليم القيادة، تجمعوا إلى اليمين، على الجانب الثاني من الطريق، وأشعلوا حطباً وبنزيناً في تنكة معدنية، فتصاعد اللهب عالياً، وكاد يحرق الشادر المعلق فوق رؤوسهم.

بالقرب منهم، كان متسابق يحاول التوازن على دراجة نارية، يمكن وصفها بالبخارية. الرجل حاول الدخول في حركة "زيكزاك" بين المؤشرات الموضوعة على الأرض، لكن الماكينة كانت غير مطواعة. الأمر كان أشبه بتطويعها، أكثر من قيادتها.

الصبية التي انقلب معها حسين إلى "جنتلمان"، انطفأت بها السيارة، تماماً تحت العبارة المكتوبة بخط أسود عريض على الجدار: "يا حسين". الشاب الواقف إلى جانبي، والمُعنّف بدوره من حسين، شَمِت في الصبية، لكن خوفه كان ظاهراً في أصابعه المرتجفة، من صراخ حسين عليه. تركتُه وهو يقول لنفسه: "بسيطة.. بسيطة.. يمين ثم يسار ثم يمين.. ثم العكس..".

جاء دوري، صعدت المركبة المعدنية، أخذت نفَساً عميقاً، فتحركت بسلاسة. الإمتحان بسيط للغاية: تقود المركبة في خط سير مستقيم، تركنها، تنزل لتقدم أوراقك الرسمية، فيختبرك أحدهم بإشارات المرور، ثم تعود إلى المركبة، لتنفذ حركة رجوع، وإصطفاف إلى اليسار، ثم تخرج مما يفترض أنه موقف، وتعود إلى الخلف بانعطافة إلى اليسار. الإمتحان يتم لخمسة متدربين، في خمس سيارات، دفعة واحدة.

الحيلة ذاتها، مكررة في كل السيارات: على الشباك الخلفي اليسار، هناك إشارة/علامة، هي ملصق مُنتزع من عبوة مياه، وحلولها بموازاة عمود معدني صغير يحدد لحظة وقوفك بالسيارة قبل الإنعطاف يساراً. أزجي الوقت، متفادياً النظر إلى حيث يتدفأ حسين قرب النار، بالتفكير: لا حاجة إلى المرايا مع "ورقة صحة"، قد يكون إعلاناً مدهشاً لشركة المياه المعلبة.

لم أعرف أن الامتحان قد انتهى، إلا عندما وجدت حسين قريباً مني، يصرخ: "طلاع على اليمين.. طلاع". لم أفهم في البداية، وقلت له: "أتجاوز العَلام الأبيض على الأرض؟". حينها، رمقني الشاب ذو المعطف الخمري والشَّعر السبايكي، بأقوى نظرة حقد تلقيتها في حياتي. كانت نظرة احتقار، أعجزته عن الصراخ.

نزلت بعدها، واقتربت منه، متسائلاً: "حسين ايمتى باخذ الدفتر؟"

لم ينظر صوبي، ودمدم بلؤم: "روح عالبيت".

خرجت مسرعاً، أحاول الابتعاد بالسرعة القصوى عن ذلك اللامكان، فلم انتبه إلى الطين الذي غطى حذائي. كان كل تفكيري منصباً على تحقيق "حُكم" حسين، بالعودة إلى البيت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها