الثلاثاء 2015/03/03

آخر تحديث: 16:33 (بيروت)

طرابلس: ناس ساحة التل لا يرونها إلا كما هي

الثلاثاء 2015/03/03
increase حجم الخط decrease

يراقب أبو علي، بائع المصبات، الذي يركن بسطته وسط ساحة التل في طرابلس، الزوار المعترضين على إقامة "مرأب التل". يشاهدهم يأتون مجموعات متفرقة، ويصورون الناس، "يصوروننا كأن الساحة ستزال من الوجود"، يقول وهو يضع جمرتين في فوهة ابريقه الفضي، ويضيف: "هذه أول مرة أراهم فيها. ما منشوفن إلا وقت التظاهرات".

يتذكر أبو علي الساحة حين كان صغيراً. يأتي به والده من التبانة الى حديقة المنشية ويتمشيان فيها، "أحببت الكثير من شتلات الورد بسبب الحديقة. زرعت بعضها على سطيحة بيتي في الزاهرية"، يقول وهو ينظر الى الساحة التي تحولت الى مكان يضج بالباعة المتجولين وأصحاب البسطات وسيارات الأجرة، "ذهبت مراراً الى سينما الحمراء تحت بناية سلطان. وشاهدت اجمل الأفلام. وتعرفت الى بروس لي. تركت المدرسة وبقيت اتسكع في التل. اذهب مع رفاقي الى مقهى التل العليا. نجلس في الساحة هنا. حيث كانت سرايا القشلة. قبل ان تزنر بحديقة صغيرة تابعة للبلدية".

يقضي أبو علي معظم يومياته هنا، واقفاً وسط رفاقه وزبائنه الذين يرتشفون القهوة، رغم زخات المطر، او يجلسون على كراس بلاستيكية يوزعونها حول البسطة، ويتبارون بأوراق الشدّة.

إنها ساحتهم. ساحة يمكن للعاطل عن العمل ان يجد فيها متعته، وهو يتفرج على المارة والطلاب الآتين من كليات الجامعة، او العائدين من عملهم والمتجولين في الأسواق الداخلية.. ويمكن للمنشغل بيومياته ان يستريح فيها، يتأمل الماشين بسرعة ويلتقط حركاتهم وكلامهم، فالناس هنا دوماً يشغلون المساحات من دون تردد. يجلسون على الرصيف ويلعبون الدامة حول طاولات هشّة، او يمشون ويحتسون قهوتهم "الاسبرسو" من صاحب "فان" صغير، أو يأكلون سندويتشاتهم من "الطبال" و"الصوفي" واقفين، أو يتحلوّن بأصابع زينب و"العوامات" من عند أبو رفيق.

يسأل أبو علي: "لماذا لا يتركون الساحة هكذا؟ هي جميلة من دون أي مرآب أو قصر ثقافي. هي حلوة كما هي". يتمنى الشاب الثلاثيني الذي يعتبر الساحة، حيّزه المتاح لقضاء الوقت والاسترزاق وايضاَ للتذكر، أن تبقى على ما هي عليه، مكاناً للفقراء والمتعبين في يومياتهم ولا يجدون مساحة لهم مجانية سواها، "في العيد هذه الساحة تصبح سوقاً. يتوزع الباعة. وفي رمضان ايضاً، بائعو السوس والخرنوب والحلويات الشعبية. لماذا يريدون ان يقتلوا فيها هذه البساطة؟"، يسأل، فيما صبي يبيع السمسمية، يأتي اليه ليطلب ماءً للشرب. يعطيه أبو علي ابريقه، ويقول: "هناك ظواهر معينة يجب أنهاؤها. أعرف ان هذا الصبي، يعمل مع كثر ويتسولون في الطرقات لكن لا مكان يأويهم للحقيقة سوى هذه الساحة. انها مكان للبسطاء والمهمشين".

لا يعرف أبو علي الكثير عن المشروعين اللذين شغلا المدينة في الأسبوعين الماضيين (المرآب وقصر المؤتمرات). يعرف فقط ان هذه الساحة هي المكان الذي يحب ان يراه كما هو، ان يبقى بسيطاً وعفوياً، ان تجد البلدية حلولاً لمشكلاته، لا ان تزيدها، يقول: "بدلاً من ان يقوموا بانشاء مشروعين قد يغيرا صورة الساحة ودورها، لماذا لا يعيدون عمل مقهى فهيم الشعبي، ولا يفعّلون عمل الكاراجات المتجهة الى القبة والتبانة وأبو سمرا والبداوي وجبل محسن، ويرتبون أمور السائقين والباعة مثلنا؟ لماذا لا يقيمون لهم "كيوسكات" لائقة، ويعيدون دور السينمايات المتواجدة في الساحة والموتيلات الصغيرة والمطاعم الشعبية التي حولها، ويرممون الأبنية الأثرية؟". مضيفاً: "هذه الأمور هي التي تستقطب السياح. عليهم ان يرتبوا الساحة ويضعوا قواعد جديدة للمشتغلين فيها، وحينها أعتقد ان هذا الامر سيحسن الكثير".

قصتا المرأب وقصر الثقافة أثارتا جدلاً واسعاً في المدينة. وساهمتا في انشطار افقي بين مؤيدين للمرآب تابعين سياسياً لـ"تيار المستقبل"، ومناصرين من "تيار العزم" لاقامة قصر للمؤتمرات والثقافة، الذي سيمول بهبة تركية.

في المقابل، لم يقدّم المجلس البلدي أي معطيات عندما أعلن رفضه لمشروع المرآب في ساحة التل، كما لم يقدم أي مبررات مقنعة عندما تراجع عن قراره لمصلحة تنفيذ المشروع. وعليه فإن المجلس لم يراع في القرارين أي مصلحة للمدينة.

وكانت قضية تراجع المجلس البلدي عن قرار رفض المشروع تفاعلت. تحرّكت الهيئات المدنية استهجاناً لموقف المجلس، وكان كلام الرئيس نجيب ميقاتي دافعاً لهذه التحرّكات حيث عبّر عن استغرابه لتراجع المجلس البلدي عن رفض إقامة المرآب، بعد ان اشيع ان الرئيس سعد الحريري ضغط على رئيس البلدية نادر الغزال لتمرير المشروع عبر موافقة البلدية، وهو مشروع سيشرف عليه "مجلس الانماء والاعمار". وقال ميقاتي إن "الانقلاب على القرار بالخفة والسرعة اللتين تم فيهما هو انقلاب مريب يجعلنا نفقد الثقة بهذا المجلس (...) وأنا من موقعي، سأتمسك بموقف هيئات المجتمع المدني وأصحاب الخبرة والاختصاص، ولن أتوانى عن اتخاذ اي موقف يحمي مستقبل المدينة وأهلها وحقهم في اختيار ما يَرَوْن فيه مصلحة لهم، بدءاً من سحب الثقة بالمجلس البلدي، وصولاً الى اعتبار هذا القرار مطعوناً فيه شعبياً وشرعياً".

وكان المعتصمون طالبوا بما اسموه بـ"وقف المهزلة"، مؤكدين أنهم سيتخذون كل الإجراءات القانونية للطعن بهذه القرارات وما قد يماثلها في المستقبل، محذرين المتعهدين من الدخول في أي مناقصة او التزام يتعلق بهذا المشروع".

من جهته رد رئيس البلدية نادر غزال على المعترضين، مؤكداً أن ساحة التل ستشهد بناء قصر ثقافي بشكل السرايا القديمة مع مرآب لزواره، وسيتم تمويله من البلدية بدل انتظار حلم الهبة التركية، إضافة إلى مرآب عام للسيارات الخاصة والسياحية كي يتمكن الزوار أن يركنوا سياراتهم وتحريك العجلة الاقتصادية والتجارية في الوسط التجاري. إضافة الى تحويل التل إلى منطقة مشاة شأنها شأن معظم المناطق المركزية في دول العالم المتحضر".

الاعتراض السياسي على المشروع امتد أيضاً إلى "الجماعة الإسلامية". علاقة الجماعة مع "تيار المستقبل" باتت في السنوات الأخيرة متأزمة. رأت الجماعة في بيان أنه "لم يعد خافياً على أحد ما يمارس على طرابلس ومجلس بلديتها من توتاليتارية تفرض عليه"، معتبرة أن "تراجع غالبية أعضاء مجلس بلدية طرابلس عن موقفهم من مشروع مرآب ساحة التل، هو خيانة لأمانة طرابلس ومواطنيها".

في موازاة ذلك التزم تيار "المستقبل" في طرابلس بالصمت حول المشروع، من غير أن يبادر إلى توضيح مبررات وفوائد المشروع الذي فرضه الحريري على بلدية المدينة.. وهل هو أولوية ملحّة في المدينة؟

غير أن الانتقادات لم توفر أيضاً رافضي مشروع المرآب الذين يدعمون مشروع الهبة التركية لإنشاء قصر للثقافة والمؤتمرات. إذ وجّه معارضون لإنشاء مثل هذا القصر ملاحظات عليه، منها: لماذا لا يعاد تأهيل وترميم الآثار العمرانية العثمانية الكثيرة في طرابلس، التي تعاني إهمالاً وتداعياً، بدلاً من إنشاء قصر يكون بديلاً من سرايا عثمانية قديمة هدمت قبل نحو 50 عاماً؟، وما جدوى إنشاء قصر للثقافة والمؤتمرات في ساحة التل، التي يوجد فيها مركز ثقافي هو قصر رشيد كرامي الثقافي البلدي (قصر نوفل سابقاً) الذي لا يبعد أكثر من 30 متراً عن القصر المنتظر، وهل المدينة فعلاً تحتاج الى قصر للمؤتمرات وهي التي تعاني قصوراً اقتصادياً وانمائياً ملحاً؟

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها