قد يتمكن النظام الايراني من استيعاب أخطر تحرك شعبي يواجه الجمهورية الاسلامية منذ قيامها في 1979. لكنه لن يضمن الاستقرار في بلد من نحو 80 مليوناً قرابة 45% من السكان تراوح أعمارهم بين 15 عاماً و25. لو توسعت هذه الفئة 10% لبلغت نحو 60%. وهي نسبة تفتقر إليها كثير من الدول الصناعية في العالم التي باتت تعاني مجتمعاتها ارتفاع معدل الشيخوخة.
الميزة العمرية للمجتمع الايراني كان يمكن أن تشكل قوة دفع كبيرة لايران، ترفد المؤسسة السياسية بعنصر الشباب وبكفايات علمية تؤهلها كل عقد من الزمن لمواكبة العصر والتنافس على تأسيس قاعدة دعم متينة للنظام السياسي ةالاقتصادي. بيد أن سمة النظام بمرجعية أحادية تقلب الميزات التفاضلية رأساً على عقب. وحولت ايران جمهورية يحكمها رجال الدين مباشرة وليس الدستور الاسلامي فحسب. النموذج غير الموجود في أي دولة من دول العالم.
توصيف التحركات الأخيرة في ايران بأنها اقتصادية ولا علاقة لها بالسياسة تبسيط للأمور وواقع الحال. فالاقتصاد سياسي أساساً في كل دول العالم حين يتصل الأمر بخيارات القرارات الاقتصادية والاجتماعية والمصالح الوطنية العليا. بدءاً من ادارة الموارد الطبيعية وتصميم الموازنات والنظم الضريبية والتأمينات الاجتماعية وتشريعاتها ونماذج التنمية. واللائحة تطول. أما في بلد تهيمن الدولة على موارده ومعظم مؤسساته المالية والمصرفية الصناعية الكبيرة والأساسية، فلا يمكن أن يكون الاقتصاد إلاّ وليد القرار السياسي. وأي حركة احتجاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي هي بمضمون سياسي.
الكتلة الشعبية الكبيرة التي شاركت في الاحتجاجات والشعارات التي أطلقتها كانت تعبيراً عن السخط الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي بوضوح. ونسجل لايران أنها أتاحت للمحتجين التعبير عن أنفسهم في أيام التحرك الأولى. وقد صاحب ذلك ترويج الحكومة والرئيس حسن روحاني بالذات بأن التحرك اقتصادي واجتماعي فحسب. وحين تجاوزت التحركات السقف المسموح به لم يعد ثمة مجال للتريث. اتخذ القرار بالمواجهة والقمع.
هنا المشكلة الأساس التي سيواجهها النظام في المستقبل. يطول أو يقصر. لم نحفظ من التاريخ أن نظاماً يخل في معادلة الرغيف والحرية في وقت واحد. هذا يحصل في ايران. لو استحضرنا تجربة الاتحاد السوفياتي الذي كان أهم تحول طبع القرن العشرين، وكان له تأثير على مسار دول وشعوب كثيرة، لذهبنا إلى أبعد من معادلة الرغيف والحرية. إذ رغم كل ما انجزته الثورة البلشفية على كل الصعد لا سيما الاجتماعية والإنسانية منها، وقعت في فخّ الحزب الواحد وتقييد الحريات. وحين سقطت الدولة لم يحمها الشعب. وكان الرغيف موفوراً بالمجان. وكذلك السكن والتعليم من الحضانة إلى مخرجات العلماء. والفنون وكل متطلبات الحياة الاجتماعية. فكيف بكسر معادلة الرغيف والحرية معاً؟
معضلة النظام الايراني أنه ما زال يعتقد في أن مَدد الثورة الذي استمده من التيارات الدينية التي نكّل بها الشاه محمد رضا بهلوي، ما زال إكسيراً للحياة في الألفية الثالثة. حتى الاقتصاد الاسلامي الذي تنهجه ايران موضع سؤال. لا توجد فوائد على إقراض المال في ااسلام. في ايران بلغت الفوائد 30% على قروض المصارف. وهذا الربا بعينه. في كثير من الأنظمة المصرفية الوضعية لا يجوز أن تتجاوز الفوائد أضعاف أصل الدين. النظام المصرفي الاسلامي في ايران هو الوحيد بين الأنظمة المماثلة لا يخضع لقواعد هيئة رقابة الصيرفة الاسلامية.
حين أفلست مجموعة من المصارف الايرانية في حزيران 2017 ورفضت تسليم الودائع لأصحابها قُمع هؤلاء. وهناك مخاوف حالياً من أزمة مصرفية نظامية. كل ادارات المصارف في القطاعين العام والخاص إما مملوكة من الدولة والحرس الثوري أو قريبة منه. النظام المصرفي التقليدي لا يعمل إلاّ من خلال نظام مصرفي دولي يهيمن عليه "الشيطان الأكبر" والإمبريالي أيضاً. لكن النظام المصرفي الاسلامي له قواعده. مصارف ستة تحتفظ بـ20% من السيولة بالعملة الايرانية تعمل من دون ترخيص باعتراف رئيس المصرف المركزي ولي الله سيف. أكثر من ألف مصرف ومؤسسة مالية تقبل ودائع وتسلف وتعمل بلا ترخيص. من يدير القطاع المصرفي إذن؟ ما علاقة ذلك بدونالد ترامب والعقوبات و"الشياطين"؟ أن تنطلق شرارة الاحتجاجات من مشهد فلأن معظم المصارف المفلسة كانت من المدينة. وخسرت عشرات ألاف الأسر أموالها في مشروع شانديز السكني في عمليات احتيال.
مشروع موازنة 2018 (السنة المالية تبدأ في 21 آذار) بقيمة 341 مليار دولار اميركي. عملياً أقل من موازنة 2017. مع تضخم بواقع 12% فهي مخفوضة بالنسبة نفسها. ومثقلة بأعباء تفوق الموازنة السابقة. مع ذلك مستشار خامنئي علي لارجاني يقول إن الجباية قد لا تتجاوز 70% من الايرادات المتوقعة. أين يبقى الحل كي تعبر الموازنة من دون عجز؟ في حفض التضخم إلى صفر. هذا مستحيل وفي سنة واحدة. وفي زيادة الضرائب. وقد حصل ذلك على أسعار معظم المواد الغذائية والوقود والمياه والكهرباء. ونزل الناس إلى الشوارع. بينما تمّ إلغاء معظم الاعانات النقدية للأسر الأكثر فقراً لعدم القدرة على تمييز المعوز من المكتفي.
وبين هذه المنغصّات يقف ملايين العاطلين عن العمل بواقع 12%. بينما قدره وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي في تشرين الأول الماضي بأنه وصل إلى 60% في بعض المدن الكبرى. وهناك نحو 900 ألف يد عاملة جديدة في سوق العمل في 2018. ويعترف النائب الأول لرئيس الجمهورية إسحاق جهانغيري لوسائل الإعلام بأن "الاقتصاد الحكومي أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الفساد ويجب التصدي للفاسدين".
اقتصاد مركزي بقبضة سياسية أحادية لا يمكن أن يلقي تبعات سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية على مجهول. خصوصاً وأن الرأي العام يرى نفقات هائلة على مشاريع جيوسياسية واقليمية لا تشكل بالضرورة مصلحة لايران وحلولاً لمشكلاتها. لا، الحَراك الايراني في عمق السياسة والاقتصاد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها