الإثنين 2018/01/15

آخر تحديث: 00:13 (بيروت)

ماكينزي لا تقرر سيادياً

الإثنين 2018/01/15
ماكينزي لا تقرر سيادياً
نحن في حاجة الى الخروج من الأزمة (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

في مقالة سابقة تناولنا تخصيص الحكومة 20 مليار دولار اميركي (بينها 4 مليارات لمشاريع قيد التنفيذ أو مقررة سابقاً) للبنى التحتية من دون ربطها برؤية اقتصادية للمناقشة. فكان البديل اعلان الحكومة تكليف ماكينزي أند كومباني إعداد دراسة للنهوض بالاقتصاد اللبناني. بعيداً من الجدل الذي أثاره قرار الحكومة وتناول جدوى القرار والمليون و300 ألف دولار اميركي تكلفة الدراسة، وذا ما كنا نفتقر إلى الخبراء اللبنانيين لاستبدال ماكينزي بهم، كل ذلك ليس مربط الفرس في أي حال.

تكليف ماكينزي أند كومباني أو غيرها، مهمة دراسة النهوض الاقتصادي هروب إلى الأمام. النهوض الاقتصادي لبلد ورؤيته صلب مهمات الدولة. تماماً كرؤية السياسة الاجتماعية، والدفاعية، والخارجية، والتربوية والصحية وغيرها. في دولة مؤسسات دستورية تعمل في انتظام، هي التي تتولى وضع سياسات النهوض الاقتصادي والاجتماعي والنمو والتنمية. يناقش مجلس النواب الخطة وتطرح على ذوي الخبرة والجمهور للنقاش والتفاعل ولحشد الدعم لها. وتصدر بقانون وبرنامج واضحين، بعد لحظ مصادر تمويلها. وتعتبر ورقة عمل نطرحها على مؤسسات التمويل المحلية والخارجية.

وليس ما يحول في الضرورة استبعاد استشارات بيوت الخبرة الدولية وتجارب بلدان أخرى. توجهات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لها طابع القرار السيادي. وتكون في صلب أي دراسة تكلف بها ماكينزي أم غيرها. ولمؤسسة الدراسة المعنية الصلاحية المطلقة أن تقترح ما يتلاءم مع تنفيذ التوجهات العامة ومعوقات تنفيذها وأساليب تراها أكثر نجاعة. من دون تلك التوجهات، فالدراسة أشبه بـ"شو في ما في"! السؤال التقليدي المألوف في لبنان. ويستعصي علينا حقاً، أن تكون الحكومة ومجلس النواب غافلين عن ذلك. علماً، أننا لم نسمع البتة أي مقاربة للرؤية الاقتصادية وأي اشارة للنهوض الاقتصادي في قرارات الحكومة وتصريحات النواب سوى عن دراسة خطة النهوض وماكينزي.

ونفترض أن ماكينزي التي يعمل لديها ألوف المستشارين والخبراء في أكثر من دولة في العالم، على دراية بهذا الأمر لتزود أرضية الانطلاق في اعداد دراستها التي قيل في غضون شهور ستة. ولو قصّرت الحكومة في هذا المجال على ماكينزي سؤالها من تلقائها. أما أن تكون ماكينزي أُبلغت بالفعل توجهات الحكومة وأولوياتها، وعناوين سياستها الاقتصادية والاجتماعية في غياب أي اعلان عنها ومناقشتها فأمرٌ عجب.

ماكينزي مؤسسة عاملة في المقام الأول في الاستشارات الادارية للقطاعين الخاص والعام. وهي محسوبة على الفكر النيوليبرالي. تركز على قيمة الأصول المالية للشركات والدول. وعلى عجوز الموازنات والدين العام ونظم المدفوعات. نحن في حاجة ماسة الى علاجات عميقة في الشؤون المذكورة. وقد استحال الأمر لدينا لأسباب لا علاقة لها بنقص الدراسات. تتصل بالفساد السياسي والاداري وقصور سلطة القانون، في نموذج اقتصادي قائم على الريوع يتغذى منه النظام السياسي ويغذيه. وينتج بطالة ونزف الموارد البشرية والاقتصادية والمالية. ويعمق فجوة التوزيع في بلد مصنف في الشريحة العليا من الدخل الفردي إلى الناتج بواقع نحو أحد عشر ألف دولار اميركي سنوياً. لو خلصُت ماكينزي إلى وصفة التوازن المالي، ووضع الدين العام على مساره التنازلي بإجراءات تقشف تصيب الفئات الأشد عوزاً، وتعمق الأزمة المعيشية، فتكون مجلبة لعدم الاستقرار. ولدينا منه ما يكفي ويزيد. ولو لجأت إلى معالجة في العمق لتقترح اصلاحات مالية واقتصادية تطاول اعادة التوزيع والنظام الضريبي ووقف الفساد، وكلها تحتاج إلى اصلاح الادارة اللبنانية المرتبطة بالفساد السياسي، ستندم السلطة التي كلفتها اعداد الدراسة.

لم تخلص دراسات ماكينزي ولا غيرها من المؤسسات النظيرة لها إلى هذه النتيجة في الدول التي درستها. ركزت على لجم النفقات، وبيع القطاع العام والاندماح في الاقتصاد الدولي. كُلفت المؤسسة بدراسات لمصر وليبيا واليمن. البلدان الثلاثة شهدت ثورات شعبية. ولا نعجب إذا كانت شقيقات ماكينزي من راند وفورد وغيرهما قد تدخلت على طريقتها لإجهاض الربيع العربي في البلدان الثلاثة.

ماكينزي دخلت الى كل دول الخليج العربي بشعار تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد على النفط. والنتائج معلومة. حتى صندوق النقد الدولي بات يربط قروضه إلى الحكومات بتأمين توافق سياسي وقبول شعبي. وقد فعل ذلك في قرض 12.5 مليار دولار اميركي قيد النفاذ. اليونان الدولة الأعلى مديونية إلى الناتج المحلي في العالم بواقع 275% استعانت بغولدمان ساكس المؤسسة المصرفية العالمية لدراسة ديونها وعلاج العجز المالي. وتبين نتيجة التحقيقات إن المؤسسة ساعدت السلطات الحكومية على أخفاء ديون بواقع 2% للدخول في معاهدة ماستريخت ومنطقة اليورو. والتزام سقف 3% عجزاً الى الناتج و60% ديناً عاماً بالمقارنة نفسها. وحصلت غولدمان ساكس على 600 مليون دولار اميركي بدل أتعاب. ثم انهارت اليونان وبدأت في بيع جزرها. مواردها الأعلى دخلاً من السياحة ومصادر العملات الأجنبية.

كل مؤسسات الخبرة والدراسة الأميركية كانت تضخ تقارير عن ملاءة شركات الرهونات العقارية قبل انفجار فقاعتها في 2008. لبنان الدولة الثالثة الأعلى مديونية الى الناتج المحلي في نهاية 2017 بواقع 150%. بعد اليونان واليابان (الثانية 239% ). هل نحتاج حقاً إلى  مؤسسات دراسة أجنبية أو محلية لعلاج أزماتنا والنهوض الاقتصادي؟

نحن في حاجة الى الخروج من الأزمة منجاة من الانهيار. بعدها نبدأ في النهوض. والعمليتان متلازمتان في النهاية. ونحن على يقين في ضؤ ما نشهد من مآس، بأن "مشكلة دستورية أو ميثاقية" كانت لتضاف الى مشكلاتنا لو قرر مجلس الوزراء تكليف مؤسسة لبنانية اعداد الدراسة التي عهدت بها الى ماكينزي. إذ يقتضي الأمر معرفة هوية المؤسسة الطائفية والمذهبية. وهوية الخبراء والنتيجة سلفاً. نعم لا نبالغ. أسهل بكثير تصدير 1.3 ملايين دولار اميركي إلى الخارج. ومن يدري، فقد يتولى خبراء لبنانيون يمّموا شطر المغارب يعملون في ماكينزي الإسهام في الدراسة. وسبل الخروج من الأزمة معروفة. كي نفعّل الاقتصاد بطاقاته الكاملة ونبدأ في النهوض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها