الإثنين 2017/09/04

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

فرنسا ماكرون ليست أميركا ترامب

الإثنين 2017/09/04
فرنسا ماكرون ليست أميركا ترامب
رحلة شاقة لماكرون مع النقابات والشارع (Getty)
increase حجم الخط decrease

وصلَت الى إيمانويل ماكرون. فقرر الرئيس الفرنسي اختصار الأزمة الاقتصادية والمالية في بلاده بقانون العمل. لو "بلغ أتراب ماكرون في الدول الصناعية الكبرى ما بلغه من "فطنة"، لما كانت أزمة 2008 في الولايات المتحدة. ولا أزمات الركود الاقتصادي التي عقبتها ولا تزال تجر ذيولاً. ولو علموا أن قوانين العمل لديهم تجسدت أزمات، لما انتظروا نحو عقد من الزمن للخروج منها.

الرئيس الشاب الذي يفتقد الى الخبرة السياسية. وزارة الاقتصاد أسندها اليه سلفه فرنسوا هولاند، واستقال منها منجاة من السفينة التي توشك على الغرق. يريد ماكرون اليوم ان يقول للفرنسيين والعالم، إن مجتمع الرفاه الذي طبع بطابعه بلد أندريه مالرو وفولتير ومونتسكيو ومئات غيرهم ممن أضافوا الى التراث العالمي قيمة انسانية واجتماعية، هو الذي يوشك على الغرق.

لم يتمكن كل الرؤساء الفرنسيين وحكوماتهم منذ ثلاثة عقود من الانقضاض على قانون العمل الفرنسي بدعوى إنه طارد الاستثمارات ومناوئ النمو الاقتصادي. ماكرون لا يكتفي بهذه الأرجوفة. يقول إن التعديلات التي سيدخلها على قانون العمل، والتي تحد من كل الضوابط المانعة لصرف العمال تعسفاً، وتطلق يد صاحب العمل، غايتها الحد من البطالة! تبدو هذه المقولة على حمق كبير أو عبثاً في العقول. إذ تطلب الشيء وضده. بيد أن فيها بعضاً من المكر. ذلك أن مقولة تشدد قوانين العمل تجاه تسريح العمال بلا محددات وقواعد، اختزلت صراعات طويلة بين الرأسمال وسوق العمل منذ القرن التاسع عشر. لم يوجد بعد  قانون عمل في الدول الصناعية يحول دون تسريح العمال. بيد أن الطبقة العاملة الاوروبية والفرنسية في مقدمها، حققت بدعم نقاباتها مكاسب اجتماعية كبيرة. من بينها وضع قيود على الصرف التعسفي. لا النقابات العمالية ارتضت التنازل عن تلك المكتسبات الموثقة بقوانين، ولا أصحاب العمل ونقاباتهم توقفوا عن المطالبة بتعديل القوانين. ذلك أن كتلة الأجور تمثل ثقلاً وازناً في تكلفة الانتاج كما هو معروف. وهي قاعدة احتساب التعويضات والعطاءات والامتيازات الأخرى للعمال. اصرار اصحاب العمل على الحق بتسريح العمال لسبب إقتصادي ومن دونه، مع التسليم بالحاجة الى العمال تحصيل حاصل، إنما يتوخى استخدام بدلاء وتعديل شروط عقود العمل الجديدة. بدءاً من الأجور، مروراً بساعات العمل. وصولاً الى ملاحق الأجر ومنافعه والتعويضات وخلافها.

كل ذلك، بالاضافة الى ضرب فكرة عقد العمل الجمعي. ودور النقابات العمالية فيه. طبعاً، تؤدي التعديلات في قوانين العمل وإطلاق حرية الصرف الى تكبير الأرباح، وتحفيز المستثمرين وزيادة النمو أيضاً بمفهومه غير الشمولي القائم على سؤ التوزيع. هذا في اختصار ما تتضمنه من تعديلات قانون العمل وفي فرنسا بالذات. وما كشف عنه رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب ووزيرة العمل مورييل بينيكو الخميس الماضي. هل يمكن أن يمر الأمر في فرنسا؟ فيليب أجاب عن أسئلة الصحافيين وكأنه يستدرك ردة الفعل مسبقاً. إذ قال: انا أنفذ تعليمات الرئيس. التعديلات تطال أيضاً، خفض بدل ساعات العمل الاضافية من 25% الى 10%. وخفض سقف تعويضات الصرف التعسفي وتقييد دور محاكم العمل. وتتيح إبرام عقود عمل من دون النقابات في المؤسسات المكونة من 50 عاملاً وما دون.

مجلسا النواب والشيوخ فوضا الأسبوع الماضس الرئيس حق اصدار تعديلات قانون العمل واصدارها  بمراسيم من دون العودة اليهما. وعلى طريقة "تفويض سيادة الرئيس في أنظمة الاستبداد والديكتاتورية". أكثرية ماكرون في مجلسي النواب والشيوخ اعطته زخما سياسياً كبيراً. لكن نسبة التصويت في الانتخابات التشريعية لم تتجاوز 43%. النجاح الباهر الذي حققه الرئيس في الانتخابات الرئاسية وفي المجلسين سيحتاج الى وقت لتقييمه. ولتحديد الأوزان المثقّلة في المعادلة الانتخابية التي صنعت انتصار ماكرون. والتي لا يمكن تجاهل ما فيها من العوامل. ولا شك أن أهمها خشية الناخب الفرنسي من وصول اليمين القومي المتعصب وحزب الجبهة الوطنية بزعامة ماري لوبان الى الإليزيه. والسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ. بالاضافة الى تشتت الحزب الاشتراكي وتراجع شعبيته وخلافات قياداته.

بيد أن تفويض الرئيس لتعديل تشريع بأهمية قانون العمل من دون العودة الى البرلمان للمناقشة وإبداء الرأي حداً أدنى، تنم عن تبدل كبير في ممارسة السلطة في بلد كفرنسا بما ترمز اليه. وشكل الحكم فيها برلماني ديموقراطي وليس رئاسياً. في المبدأ، إن نظاماً بهذه الصفة لا يخول الرئيس وحكومته حتى ولو ضمنا أكثرية مريحة في غرفتي البرلمان تفويضاً أقرب الى وكالة غير قابلة للعزل للتشريع وتعديل التشريعات في قضايا حساسة وخلافية شغلت البلاد عقوداً كمثل قانون العمل. الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب لمصلحة ماكرون سياسياً في المقام الأول. بيد أنها ليست شيكاً على بياض. النسبة الكبيرة من الفرنسيين التي قاطعت الانتخابات والعامة والرئاسية أيضاً، لا يعني إنها تركت الساحة لماكرون وحزبه "الجمهورية الى الأمام" ليتصرفا على هواهما في شأن بأهمية قانون العمل.

"رحلة شاقة لماكرون مع النقابات والشارع" كما كتبنا في أيار الماضي. التحركات النقابية التي دعت اليها النقابة العامة وكونفدرالية العمل في 12 أيلول الجاري احتجاجاً على تعديلات قانون العمل ستكون بداية المواجهة الأولى لماكرون وحزبه. لو شارك فيها الطلبة وهيئات المجتمع المدني لشكلت التحركات منعطفاً لا بد أن يحمل الرئيس على مراجعة حساباته. فما يسميه ماكرون اصلاحات اقتصادية لا يبدأ بقانون العمل ومكاسب العمال الاجتماعية. ولو حصل، يفترض أن يكون مصحوباً بزيادة تعويضات نهاية الخدمة. والاعتمادات للبرامج الاجتماعية والصحية والتعليمية. بينما نرى توجهاً مغايراً لماكرون لا يختلف البتة عن توجه الليبراليين الجدد. خفض النفقات لقاء صرف 120 ألفاً من القطاع العام. وخفض التعويضات الحكومية الى مستواها في القطاع الخاص لتوفير نحو 65 مليار يورو حتى نهاية ولايته 2022. وخفض الضرائب على الشركات. فرنسا ماكرون ليست أميركا دونالد ترامب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها