السبت 2017/06/03

آخر تحديث: 05:24 (بيروت)

مباركٌ أنت رياض سلامة

السبت 2017/06/03
مباركٌ أنت رياض سلامة
سلامة "عطوفٌ ينتقي طرائده بشطارة" قلّ نظيرها (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

مدّد رئيس الجمهورية ميشال عون لرياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان ولاية خامسة تنتهي في تموز 2023. كان معارضاً للفكرة أصلاً في الشكل والجوهر. فالرئيس على ما يقول لا يحب التجديد ولا التمديد. أعلن الرئيس جهارة إنه يعارض الدفاع عن الليرة اللبنانية بالدين. فأصاب نخاع فلسفة سلامة النقدية. لم نفاجأ بالقرار. وكتبنا عن تكتل المصالح المالية- السياسية التي يمثلها سلامة.

هل بات الرئيس مقتنعاً بسياسة سلامة؟ أم أن الأخير وعده باجتناب مثلبة الليرة في مقابل الفوائد العالية والدين؟ أم تراه فتح له محفظة الهندسات المالية ومفرداتها وراح يحدثه عن الـ"سواب"، والتحوط، وعلاوات المخاطر وما إليها؟ فضاق ذرع الرئيس ووافق.

لماذا لا نقول رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري وافق على التمديد أيضاً؟ والمرسوم صدر عن المجلس. لأن الأخير وهو مستثمر في القطاع المصرفي، مدّد لسلامة إعلامياً قبل عرض الموضوع على مجلس الوزراء. و"مولعٌ بهندسته المالية".

ووزير الاقتصاد والتجارة رائد خوري أكثر ولعاً بها. هو مصرفي دانت له الوزارة من التيار الوطني الحر. وطلب هندسة مالية خاصىة بمصرفه. وسلامة "عطوفٌ ينتقي طرائده بشطارة" قلّ نظيرها. لنختصر. لو طُرح إسمٌ آخر لحاكمية مصرف لبنان غير سلامة على التصويت لسقط بشبه إجماع. فالزمن الذي يخرج فيه البلد من سيطرة هذا "اللوبي" قصيٌ وبعيد.

لا ضير من "القضاء والقدَر". بل "اللطف فيه". استقلالية المصارف المركزية عن الحكومات أمرٌ مرغوب. ومن باب أَولى في بلد لا توجد فيه قضية خلافية جِدية إلاّ على الفساد المالي والسياسي. لكن إعفاء مصرف لبنان من كل أنواع الرقابة والمحاسبة، لا يعني إنه مستقل عن البلد. فهو بالقانون مصرف القطاع العام. أي المصرف الوطني. وفي خدمة الاقتصاد الوطني. ويقوم بدور استشاري للحكومة اللبنانية. ما يفترض حداً أدنى من التنسيق الدائم بين مصرف لبنان وسياسته النقدية من جهة، وبين الحكومة وسياستها المالية من جهة أخرى اخرى، لتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي في التوازن المالي والنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وكبح التضخم واستقرار سعر الصرف. الحكومات تفوض المصارف المركزية المستقلة ما يعنيها من تلك المؤشرات الحميدة. وتسائلها النتائج. ومجالس النواب تراقب الحكومة وتسائلها. في الدول الصناعية يأتي التفويض مباشرة من مجالس النواب والكونغرس. كما الرقابة والمساءلة.

لا يتنكر أحد لعوامل الارتباط بين السياسة المالية وبين السياسة النقدية. السياسة المالية عندنا عاجزة عن تحقيق التوازن المالي. مع الإهدار والفساد السياسي وقصور النظام الضريبي تكليفاً وجباية، وغياب الموازنات السنوية، تضغط السياسة المالية على السياسة النقدية. وتشكل قيداً على كبح التضخم واستقرار سعر الصرف. وعلى قدرة مصرف لبنان في التحكم بخلق النقد والمعروض النقدي. أي تحد من قدرة المصرف على ممارسة وظيفته. ودون ذلك اختلالات في تحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية.

هنا تكمن أهمية استقلال السلطة النقدية عن السياسة المالية الحكومية، في صرف النظر عن مدى استقلالية مصرف لبنان عن الحكومة. ما هو أهم، أن يتصدى رأس السلطة النقدية حاكم مصرف لبنان لخطل السياسة المالية. ويبلغ الحكومة أن المصرف ليس الخيار السهل لتمويل عجز الحكومة المتمادي، وقصورها عن نظام ضريبي عادل تكليفاً وفاعل جبايةً. وليس مستعداً لتمويل الإهدار والفساد السياسي. الحكومة تسحب من مصرف لبنان بما يتناسب مع رصيدها الدائن لديه. كأي عميل آخر في مصرف تجاري. تستدين من السوق المالية فالمصرف يدير إصداراتها. أما أن تسترسل بلا حدود لتمويل عجز بلا حدود، فهذه ليست وظيفة مصرف لبنان. وتحكمها ضوابط شديدة التعقيد في قانون النقد والتسليف. وتحتاج إلى قوانين منفصلة في كل مرة تلجأ فيها الدولة الى استسهال الدين من مصرف لبنان من خارج اعتمادات لحظها قانون الموازنة. وإذ يقوم مصرف لبنان بهذه المهمة، فينتزع استقلالية حتى ولو بقيت مشكولة في القانون. وإذ يفرِط، فبوظيفته يفعل. حتى ولو كانت استقلاليته مصونة في القانون نصاً صريحاً. لكن هذا لا يحصل عندنا.

لكن بالمِثل، لا يجوز التنكر لأثر السياسة النقدية أيضاً على السياسة المالية والعجز والدين والنمو الاقتصادي. فكلّما كان العجز المالي تقليداً خارج عن السيطرة، تغدو السياسة النقدية الهادفة إلى تثبيت سعر الصرف في نظام قطع حر وتحويلات مماثلة بلا قيود، أكبر وأشد تعقيداً. لقد اقتضى الهروب من هذا الواقع منذ ربع قرن، اللجوء إلى معدلات الفوائد الباهظة لجذب تدفقات النقدية الخارجية. ولحفز المدخرين نحو الليرة، والمستثمرين نحو سندات الدين العام. الأمر الذي يرفع حجم الدين، ويحد من الاستثمار في الاقتصاد، ومن النمو وفرص العمل. فالجانب الملازم للتباطؤ الاقتصادي، هو تراجُع عائدات الخزانة من النشاط الاقتصادي. فيزداد العجز والدين معاً. والقاعدة تقتضي بعدم تقييد الائتمان وزيادة الاستثمار. اعتماد الفوائد العالية وسيلة وحيدة لجبه التضخم، ولتثبيت سعر الصرف لم تعد ناجعة. ومردودها دون تكلفتها بكثير.

مع ذلك، فخروج لبنان من دائرة التضخم المرتفع لم يتأتّ من تقييد الائتمان وحوافز الفوائد، بمقدار ما كان نتيجة تراجع الفوائد الدولية إلى 1% وما دون منذ ما بعد الأزمة المالية العالمية صيف 2008. ولا إغراءات الفائدة غيرت في بنية الودائع التي لاتزال مدولرة فوق 65%. إنما راكمت خدمة الدين أصلاً وفائدة. وإذ يكافح مصرف لبنان التضخم في سياق سياسة تثبيت سعر الصرف الاستقرار النقدي، يسهم بالحد من أثر النمو.  فـ"أثر الدين يقترب من أثر التضخم في النمو، الذي يقلل من قيمة النمو الحقيقي لمصلحة النمو الاسمي الظرفي وغير التنموي. وغير المولد فرص العمل" على ما يرى الاقتصادي الشهير من جامعة هارفارد كينيث روجوف.

تنسيق السياسات الاقتصادية الكلية موجود في بلاد العالم. كي لا تتضارب السياسات ووسائل تنفيذها وتتجوف أهدافها. لبنان في حاجة ماسة لذلك. ونخشى أن الـ"لوبي" نفسه يحول دونه لتبقى مرافق الاقتصاد مستقطعة لزبائنية السياسة والمال. "مباركٌ أنت رياض سلامة"!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها