نفذ ماكرون إلى قصر الإليزيه بلا تجربة سياسية. لكنه يحمل تجربة اقتصادية لا تبعث على الارتياح في أوساط النقابات الفرنسية. سلفه الرئيس فرانسوا هولاند الذي أتى به من الوسط المصرفي إلى وزارة الاقتصاد تحمّل وزر خطته المعروفة "قانون ماكرون" الذي اتّسم بليبرالية مغالية. اعتقد هولاند أن القانون سيخفض مستوى البطالة في فرنسا إلى دون الرقمين. فمرره في 2015 بموجب صلاحيات الرئيس الاستثنائية بعدما افتقر إلى غالبية في مجلس النواب. وكانت النتيجة صفراً تحملها في المحصلة هولاند نفسه. بينما استقال ماكرون وترك هولاند يواجه مصيره. وبدأ يستعد للانتخابات الرئاسية. وهولاند ربط ترشحه إلى ولاية رئاسية ثانية بخفض مستوى البطالة. وصدق وعده. ثم عاد في 2016 ومرّر قانون العمل المعروف "قانون الخمري" من دون المرور بمجلس النواب. وكان بداية لصدع كبير في الحزب الاشتراكي، ومعارضة قوية من كل النقابات العمالية على اختلاف توجهاتها السياسية بالنظر إلى اقتطاعه مكاسب للعمال مكرسة عبر عقود.
كل النقابات العمالية الكبيرة التي وقفت بقوة ضد التصويت للوبان لم توجه قواعدها بالتصويت لماكرون. خلا تأييد خجول للنقابة العامة للعمل، ذات النفوذ الشيوعي على خلفية معارضتها لوبان. كونفدرالية النقابات القوية لم تؤيده. امتناع نحو ثلث الناخبين الفرنسيين عن التصويت و/أو الاقتراع بأوراق بيضاء مرة أولى منذ 1969، كان في جزء أساسي منه، نتيجة لموقف النقابات من توجه ماكرون الاقتصادي والاجتماعي، ومعارضة الفئات الاجتماعية الفرنسية الأقل دخولاً. هكذا كان موقف الحزب الراديكالي وجان لوك ملنشون. هذا الفريق فصل بين موقفه من التطرف العنصري للوبان وحزب الجبهة الوطنية، وبين موقفه المعارض بشدة مواقف ماكرون الاقتصادية. عوض الأخير تلك الأصوات بدعم مؤسسات أصحاب الأعمال والمصارف إياه. وقد صبّ نفوذها الكبير في الكامل لمصلحته. بين المتنافسين الثلاثة الأوائل في جولة الانتخابات الأولى برز الأمر واضحاً. لا مجال للتصويت للوبان المعادية للتجارة الحرة والاتحاد الاوروبي ولمنظمات الاقتصاد الدولي. والتصويت ضدّ ملنشون اليساري المتشدد مفروغ منه. حتى إذا حلت الدورة الثانية من الانتخابات خرجت لوبان نهائياً من خيارات أصحاب الأعمال والمصارف.
مدير المؤسسة الفكرية "جنرايشن ليبر" غاسبار كوينيغ قال إن 50% من "الفرنسيين يعارضون اقتصاد السوق بطريقة راديكالية كما ظهر من مسار الانتخابات. وشاهدنا صعوداً قوياً لتيارات معادية للرأسمالية". ماكرون لم يتخلّ عن توجهاته السابقة، خصوصاً ما يعتبره اصلاحات قانون العمل. مع انتقاصه من ميزات العمال الاجتماعية، وقيمة ساعات العمل الإضافية، يحدد سقوفاً لتعويضات المصروفين من العمل تعسفاً، وللمصروفين جمعاً في حال قفل المؤسسة دون السقوف التي تحكم بها محاكم العمل المدعومة بالقانون السابق. ويمنح صاحب العمل إمكان تسريح العامل، عند تراجع فرع الشركة الذي يعمل فيه العامل بضعة شهور. بينما تعترض النقابات على ذلك، إذا كان الفرع لشركة كبرى، تجني أرباحاً من فروعٍ أخرى. وأكثر ما تعارضه النقابات مس حقها بالتفاوض على عقود العمل الجمعية والتفاوض مع العمال فرادى. يصر ماكرون على قانون العمل والتشريعات الاجتماعية ذوات الصلة مدخلاً إلى الاصلاح الاقتصادي. ينوي إعادة النظر بتشغيل نحو 120 ألف مستخدم في القطاع العام. عزمه على توحيد نحو 37 مؤسسة معنية بالضمانات الاجتماعية والصحية في فرنسا، له كثير مما يسوغه. لكن ينظر إليه من جانب تحلل الدولة من التزاماتها الاجتماعية لمصلحة شركات الضمان الخاصة. وبدء العد التنازلي لمجتمع الرفاه الاجتماعي الذي تميزت به الدولة الفرنسية.
وإذ يرفض ماكرون تصنيفه ليبرالياً جديداً ويمينياً، تنحو مواقفه الاقتصادية منحى الاتجاه نفسه. فيقع في التناقضات المشابهة التي تخبط فيها اللبيراليون الجدد بدعوى الاصلاح الاقتصادي. خفض الضرائب على الشركات. وخفض عجز الموازنة في وقت واحد. أي عملياً إيراداتها. تخصيص 50 مليار يورو منها 15 ملياراً لمجموعات معينة "لفك ارتباط الفقراء وسكان الضواحي بالارهاب" وخفض الدين العام. حالياً نحو 2100 مليار يورو. زهاء مئة في المئة إلى الناتج المحلي. تساهلت المفوضية الاوروبية مرتين مع حكومة هولاند بضغط من مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، لخفض العجز الى 3 في المئة استجابة للمعيار الاوروبي. ويسجل لهولاند إصراره على توفير التمويل في الموازنة لمشاريع تنموية أولوية على كبح العجز والدين. النموذج الألماني المحابي لخفض العجز أولاً الذي تلتزمه المفوضية. لو اتجه ماكرون المصر على اصلاح الاتحاد الاوروبي إصراره على استمرارية فرنسا فيه، نحو النموذج الألماني القائم على خفض الإنفاق لمعالجة العجز والدين، من دون الساق الاساسية وهي النمو وفرص العمل، ستكون رحلته شاقة مع الاقتصاد ونقابات العمال.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها