الإثنين 2017/12/25

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

20 ملياراً لإعمار بلا رؤية

الإثنين 2017/12/25
20 ملياراً لإعمار بلا رؤية
البرنامج الاعماري لا يثير اهتمام السادة النُجب (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

تحضر الحكومة برنامجاَ اعمارياً في 2018 قيمته الاجمالية نحو 20 مليار دولار اميركي. يستهدف البرنامج 250 مشروعاً في البنية التحتية، ويشارك فيه القطاع الخاص بنحو 25% ويمول الباقي بقروض ميسرة من المؤسسات الدولية لـ30 سنة حداً أقصى مع سنوات عشر فترات سماح. بين تلك المؤسسات المصرف الدولي والمصرف الاوروبي للاستثمار، ومصرف الاستثمار الصيني وصناديق عربية. ومن ضمن البرنامج 40 مشروعاً بتكلفة 4 مليارات دولار اميركي لمشاريع أنجزت دراساتها أو قيد الانجاز. وبعضها تجمّد تنفيذه نتيجة الشغور الرئاسي والمشكلات السياسية. ومعظم تلك المشاريع كما في البرنامج الأساسي تشمل الكهرباء والمياه والنقل والنفايات والصرف الصحي وخلافها. وقد تأمن من تكلفتها نحو مليار و300 مليون دولار اميركي. ويبقى 700 مليون دولار حصة الدولة.

برنامج المشاريع على الورق هو الأكبر بعد برنامج الاعمار في بداية تسعينات القرن الماضي بعد اتفاق الطائف. مشاريع البنية التحتية في كل المجالات تأتي أكُلها. وفي كل الدول حتى في الدول الصناعية والمتقدمة التي انتقلت بمرافقها ومنشآتها الأساسية الى عصر الحداثة والتطور. ولا مجال لعقد مقارنة بينها وبين لبنان. إعمار البنى التحتية وتطويرها كماً ونوعاً عملية مستمرة للاستثمارات والانتاج والتبادل والاستهلاك. وعليها تعتمد أيضاً حركة الرساميل المباشرة الداخلية والخارجية والدفق النقدي الموجه نحو الاقتصاد الحقيقي. ومنها استيلاد فرص العمل وتحسين المؤشرات الاجتماعية.

ولأننا لا نملك من تلك المقومات ما يعتد به سوى الموارد البشرية وما تبقى منها بين ظهرانينا، كان منطقياً لو سبقت البرنامج رؤية اقتصادية اجتماعية لوضع البرنامج الاعماري في سياق التنمية. تكلفة البرنامج الشامل نحو 40% من الناتج المحلي. لم يعد لبنان يتحمل برامج اعمار من خارج سياقها التنموي. الاقتصادي والاجتماعي في مقدمها. ولا عاد قادراً على تركيب ديون حتى بفوائد رمزية وعقوداً من فترات السماح. وسنعتبر أن جدوى مشاريع في بنية خِدمية وتحتية متهالكة موفورة بالضرورة ولا حاجة لفلسفتها. الرؤية الاقتصادية الاجتماعية تقدم البرنامج للرأي العام، لحشد الموارد المتاحة وتعبئة الجهد ودعمه بتوافق وطني وارادة سياسية على هدف نبيل ولو مرة واحدة. فقد وصلنا الى شفا القاع. ولم يعد من الحكمة شراء الوقت وبمزيد من التكلفة والمخاطر السيادية والمالية والسياسية للسقوط فيه.

قبل نحو سنتين كتبنا عن تبعات تراجع ميزان المدفوعات في بلد يعتمد على التحويلات من الخارج وعلى فائض ميزان المدفوعات لتمويل استهلاكه وفاتورته وارداته من نحو 17 مليار دولار اميركي ويزيد أحياناً. ولتعزيز موارد المصارف من العملات الأجنبية وقدراتها على تسليف القطاع الخاص. وتأمين ذخيرة الدفاع عن سعر صرف الليرة وتمويل القطاع العام من خارج مطبعة مصرف لبنان. حين راكمنا زهاء 30 مليار دولار اميركي فوائض في ميزان المدفوعات في الفترة بين 1990- 2010، كانت مصادر تحويلاتنا الخارجية لا تزال تعمل بنشاط. في الفترة 2011– 2017 تحول الفائض عجزا تراكمياً بنحو 10 مليارات دولار اميركي. الآن جفّت محركات التحويلات خصوصاً من مصدرها الوازن في مجموعة مجلس تعاون دول الخليج. ما عادت أسعار النفط مدرّة كما في السابق. حلّت الخلافات بين دول المجموعة. وتحولت من دول وفرة إلى دول دائنة. وتنفق على سلامتها من المخاطر الجيوسياسية من صناديق أجيالها المقبلة. وبدأت في سياسة شدّ الحزام والتقشف خلافاً لما نحن فيه من فساد وإهدار المال لمنافع سياسية. ولا نزال نصر على أن نموذجنا الاقتصادي، وتابعه النموذج المالي– النقدي هو صنو وجودنا. ولو دقّقنا قليلاً لقلنا إن النموذج الاقتصادي هو تابع النموذج المالي– النقدي وليس متبوعاً. لكن من أين يا حسرتاه؟ لا جواب.

لذلك نقول بالرؤية الاقتصادية الاجتماعية قبل برنامج الاعمار. وبمسار التنمية الملازم إياه. فلسفته بسيطة في كل المدارس الاقتصادية. الاقتصاد الحقيقي والانتاج يستولدان المال والنقد. العكس غير صحيح. ولو شذذنا عن هذه القاعدة في ظروف تطول أو تقصر فالأمر لا يستقيم في كل الوقت. وإلاّ قولوا لنا كم من المليارات في الوقت الراهن مدفونة في الشقق الفارهة وفي العقارات التي أنشئت باستثمارات ريوع لجني ما يماثلها من أرباح؟ وكم كان العائد على الاستثمار في المصارف لولا شحنة الدعم من الهندسة المالية؟ وكم مصرف كان ليستجيب معايير المحاسبة الدولية وبازل 3 وفي وقت قريب بازل 4 لولا دين الدولة في بيئة استثمارية محفوفة بالمخاطر في القطاع الخاص؟ وكم ننفق على فوائد الدين العام التي تأكل مع رواتب الموظفين في القطاع أكثر من 70 في المئة من عائدات الموازنة؟ لذلك لا تستطيع الدولة تأمين 700 مليون دولار اميركي حصتها من التمويل لاستملاكات عقارية يتطلبها برنامج الاعمار الفرعي من ضمن البرنامج الشامل لتنفيذ مشاريع أنجزت إجراءاتها ولم تستكمل. وأملاك الدولة  المستقطعة والمصادرة تكفي وتزيد.

كل هذه المثالب من نموذج الريع المارق الذي لا ينتج قيمة مضافة. ونحبس أنفاسنا في كل مرة نواجه فيها صدمة سياسية وأمنية، أو دورة اقتصادية هابطة كي نستبقي قيمة الريع المارقة في نظامنا المالي. بينما نواجه في الضفة الأخرى المصاحبة أزمة اجتماعية ومعيشية عاتية، وبطالة لا أحد من المسؤولين يعرف حجمها ويبالي بنتائجها على أبسط حقوق المواطن الانسانية.

كنا لنصر على الاعتقاد في أن غاية البرنامج الاعماري هي لحفز الاستثمارات وتحريك الاقتصاد وخلق قيمة مضافة حقيقية وفرص عمل، حتى برؤية اقتصادية تنموية لاحقة. أي بالمقلوب! فقد تراجع طموح اللبناني إلى يومه بلا غدٍ. فقط ليستحق الكهرباء والمياه والمواصلات والبيئة النظيفة والصحة والبقية معروفة.. لكن الغريب، أن البرنامج الاعماري رغم ضخامته، لا يستحوز نقاشاً سياسياً. ولا يثير اهتمام السادة النُجب وزراءَ ونواباً. ولا الأحزاب ولا المجتمع المدني. مع ذلك نرتضيه بلا نقاش. بات اللبناني بلا غدٍ ويعمل ليومه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها