الإثنين 2017/11/20

آخر تحديث: 00:08 (بيروت)

الاستقلال المنهك بديموقراطية مجوّفة

الإثنين 2017/11/20
الاستقلال المنهك بديموقراطية مجوّفة
ماذا عمن لا يملكون الدفعة الأولى للحصول على قرض للاسكان؟ (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease

في 22 تشرين الثاني يوم الاستقلال الوطني، سنسمع من على منصات الخطابة على جاري العادة، كثيراً من الكلام المنمّق عن السيادة والاستقلال والعيش المشترك. الاستقلال صنيعة الشعب. والشعب مصدر السلطات يمارسها بموجب الدستور بنص الدستور نفسه. أي أن سلطة لا تتصدى لمهمات تطبيق الدستور بأمانة وشجاعة، في السياسة والاقتصاد والتنمية، وفي صون السيادة من العدو الصهيوني ومن المتطاولين عليها أقربين وأبعدين، فهي تمتهن الشعب ولا تقيم له وزناً.

نخطئ إذ نعتقد إن اتفاق الطائف الذي أنتج تسوية كتبت نهاية الحرب، ووثيقة الوفاق الوطني التي غدت جزءاً من دستورنا، قد غيرت كثيراً في صلب نظام سياسي أنتج الحرب وما برح في الخِدمة يحكم سدنته باسم الدستور ويتنكرون له في وقت واحد، مستعينين بميثاق العيش المشترك بين الطوائف الذي يضرب مقدمة الدستور وجوهره.

في كل الحروب هناك رابح وخاسر. في الحرب اللبنانية خسر لبنان وانتصرت الميليشيات. تسوية الطائف ما كانت ممكنة لولا اقتسام الامتيازات الطوائفية المحمية بميثاق العيش المشترك غير المكتوب، على حساب دستور مكتوب تحتكم إليه سلطة القانون ويحدد حقوق المواطن وواجباته.  تناقض الدستور والميثاق واضح لمصلحة الطائفة على حساب الدولة. الدستور يقول بالمناصفة بين الطوائف في توزيع المناصب العليا. لا يسمي طائفة لمنصب. وبعدم التمييز بين مواطن وآخر في حال الأهلية والكفاية. حرية المعتقد مطلقة دستورياً. لكن قانون الأحوال الشخصية فرضٌ وشعيرة. تجاوز المبدأ الدستوري بفصل السلطات، وممارسة القضاء مسؤولياته باستقلالية باتا ميراثاً سياسياً. كل ذلك بمفهوم ميثاق يفتقد إلى تشريع وسند وتجهله غالبية الشعب اللبناني.

في المجال الاقتصادي والاجتماعي يتظهر نظام الامتيازات الجائر الذي تكرس في مقدمة الدستور. العدالة الاجتماعية كلمة واحدة من "لزوم نص الفقرة ج" من المقدمة حشرت مع النظام البرلماني الديموقراطي. غلاة الديموقراطية من مفكري النظام الرأسمالي في الدول الصناعية والمؤسسات الدولية الضامنة هذا النظام، أقروا ببطلان ممارسة الديموقراطية في معزل عن العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة العادل، ومظلة التأمينات الاجتماعية والصحية. المفكرون اليساريون سموها منذ القرن التاسع عشر "ديموقراطية الأمعاء الخاوية". إذ كيف يكون المواطن حراً في خياراته السياسية ومعتقداته طالما رغيفه وفرصة عمله مرتهنين للساسة وزعماء الطائفة و"العملة البيضاء"؟ بينما لم يغفل الدستور مقدمةً ومتناً "النظام الاقتصادي الحر والملكية الفردية". وفي فقرة أخرى مستقلة "الملكية في حماية القانون". قبلنا كي لا يختلط الغثّ بالسمين. لكن من يضمن من لا يمتلك شيئاً من متاع الدنيا والآخرة سوى قوة عمله، ولا يجد فرصة للعمل، وتتوقف تقديماته الصحية بعد شهور ثلاثة على تركه إياه؟ هذا "حسبُه الله ونِعم الوكيل". لنستدرك، فمعظم المنتمين الى هذه الشريحة من الفئات العمرية الشابة وخريجي الجامعات والمعاهد الفنية. للتذكير فقط، هذه الشريحة مقصية أيضاً عن النظام المصرفي والقروض المدعومة من الدولة (يعني منها أيضاً) لأنها لا تملك ضمانة. ولا الدفعة الأولى لحصول على قرض للاسكان ليس على وجه الحصر. أيُ نشيد للديموقراطية والسيادة سيتلو هؤلاء في يوم الاستقلال الميمون؟

لا أخال المشترع حين كتب الدستور تنبّه الى حماية الملكية العامة وليس الملكية الخاصة فحسب. ولم يخطر في باله أن الملكية العامة قد تستباح في دولة دستور وقانون، حيازات عقارية براً وبحراً، ومالاً عاماً. ولا اعتقدَ أن الوظائف الوسيطة والدنيا في الادارة العامة ستصادر يوماً هي الأخرى لحساب الزبائنية على حساب المواطنة. من بعيد يبدو الأمر مبالغاً فيه. إذ يشغل لبنانيون في طبيعة الحال تلك الوظائف. من قريب الأمر ليس كذلك. فقاعدة التوظيف وإشغال الوظائف العامة ليست دائماً السيرة الذاتية والكفاية والنزاهة. حتى لو اجتاز المرشح للوظيفة امتحان مجلس الخدمة المدنية. "فالطائفة لها حقوقها. والكرّاز السياسي له الكلمة الفصل". حين تستتبع الزبائنية السياسية المواطن لهذا الزعيم او ذاك شرطاً للحصول على وظيفة، يعني ضرب قاعدة عدم التمييز بين مواطن وآخر التي كفلها الدستور. في هذا المعنى يتحول المال العام هو الآخر لتمويل مصالح الزعيم السياسية.

وبفعل عوامل الارتباط بين المصالح السياسية والمصالح الاقتصادية، بملكيات مباشرة أو غير مباشرة، فالمستَتبعون للزبائنية السياسية في الوظيفة العامة عليهم سداد فواتير ادارياً ومالياً. ادارياً بالاخلال بالسلم الوظيفي وعصيان التسلسل الاداري. في حالات كثيرة يعصي المدير العام الوزير. أو يقوم الوزير بالاخلال بالسلم الاداري في حال كان الموظف تابعاً لزعيم سياسي منافس. أو رفض الموظف الملتزم القوانين، قرارات للوزير مشتبهة اداريا ومالياً. ومخالفة للانتظام العام والشفافية والنزاهة. لا يعوزنا استدلال. النزاع المتكرر بين وزراء وبين مديرين عامين. أو بين المديرين العامين وبين مرؤوسين في التسلسل الاداري. مالياً بتأمين مصالح زعيم الطائفة السياسي الاقتصادية. بمخالفة القوانين واللوائح التنظيمية العامة في الضرائب والرسوم والخِدمات والتجارة غير الشرعية وامتيازات ومنافع. لو خفضنا السقف إلى حدود قيام الموظف بأبسط واجباته لتأمين الخِدمات العامة المدفوع ثمنها سلفاً في شيوع الملكية العامة لمرافق الدولة، ولاحقاً في رسوم شراء الخدمات، فليس من يضمن الحصول عليها في حالات كثيرة سوى بالشفاعة السياسية نفسها والتمييز بين المواطنين.

يؤدي هذا الوضع الى إفساد من لا عهد له بالفساد والحضّ عليه. فشروط الترّقي في الوظيفة، تفترض أحايين كثيرة الانسجام مع بيئة وظيفية فاسدة ادارياً ومالياً. خلاف ذلك، فالموظف الكفي النزيه مقطوع من شجرة، يلفظه الهيكل الوظيفي. المشهد يضج بكثير من هذه الحالات في ادارة المناقصات العمومية وصفقة بواخر الكهرباء. التعاونيات. أوجيرو. وحين اصطدام المصالح السياسية والحزبية الضيقة في تعيينات الوظائف الكبيرة وتشكيلات الفئة الأولى وملء الشواغر، تبرم صفقات سياسية على القرارات المتصلة بها. أو تبقى المراكز شاغرة.

كل ذلك بميثاق العيش المشترك ولا علاقة له بالدستور وسلطة القانون. فلا عجب أن تصل البلاد إلى ما وصلت إليه. وتتشتت القرارات السيادية والاقتصادية الكبرى. ونبتعد في نفق النمو السالب والفقر والبطالة. سيتبخترون بخيلاء ووقار مفتعل في يوم الاستقلال المنهك بديموقراطية مجوفة. ويتقولون الشعارات. مشكلتنا بمن يصدقهم القول بعد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها