الأحد 2016/08/28

آخر تحديث: 02:22 (بيروت)

عن الموازنة و"الملعونين والبُلهاء"

الأحد 2016/08/28
عن الموازنة و"الملعونين والبُلهاء"
خسر لبنان خلال 6 سنوات 2011- 2016 نحو 20 مليار دولار فرص نمو ضائعة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

لسنا ندري إذا ما كان مشروع الموازنة العامة في بلد شبيه بلبنان وبوضعه، عاد يستدعي، كما في كل دول العالم، المناقشة والتعديل لضمان التوازن المالي، ولربط الموازنة بأهداف النمو والتنمية، وتحسين المؤشرات الإقتصادية والاجتماعية. ونحلم إذ أضفنا شرطاً يتصل بالإصلاح المالي والشفافية والنزاهة.

نقول ذلك كأننا ذاهبون إلى إقرار مشروع الموازنة كما أعده وزير المال، وإحالته إلى مجلس النواب، وإصداره قانوناً نافذاً ليكون الأول بعد أحد عشر سنة. ذلك أن أرقام الموازنة باتت أشبه بوصفة طبية لا علاجات لها في صيدلية الهيكل السياسي اللبناني ومؤسساته الدستورية المتهالكة. والموازنة في الأساس ليست حسبة أرقام، بمقدار ما هي قرار سياسي يعكس توجه الدولة الإقتصادي والاجتماعي والتنموي.

في حسبة الأرقام لا جديد سوى الأفدح. تقديرات لا تستجاب واقعاً في نهاية السنة المالية. النفقات أكثر والإيرادات أقل. العجز يتجاوز الحسبة فيراكم ديناً عاماً قد يصل في وقت قريب إلى نحو 150 في المئة إلى الناتج المحلي الإجمالي من نحو 50 ملياراً مقوماً بالدولار الأميركي. ويتكرر المشهد، فيتحول المرض وباءً، لا لقاحات له في صيدلية الهيكل السياسي وفي المؤسسات الدستورية القاعدة عن العمل.

قانون الموازنة في أي بلد أهم تشريع يصدر عن مجالس النواب. لحظ الدستور اللبناني مساحة له. ففيه أمصال العيش لكل مقومات دولة وشعب. أو لنقل "عيشية الدولة" على ما كان يردد الآدمي الراحل الدكتور إدمون نعيم عندما كان على رأس حاكمية مصرف لبنان. في زمن الوفرة كان مشروع  قانون الموازنة يقر بمادة وحيدة في مجلس النواب. وغالباً من دون تعديلات جوهرية. في زمن القلًة والسياسة الذميمة عند من في يدهم أمر البلاد والعباد، بات مشروع قانون الموازنة بازاراً يتناتش اعتماداته غلمان الطوائف تبعاً لمواقعهم.  تتغير مهمة الوزارة ومقامها بتغير طائفة الوزير. أما الإيرادات فـمسألة فيها نظر. ومصادرها اقتطاعات لـ"مقاطعجية السياسة" في منافذ العبور إلى لبنان ومنه كلها براً وبحراً وجواً. في كازينو لبنان، وإنترا، والريجي، وكهرباء لبنان، وقطاع الإتصالات والعقارات والمناقصات والنفايات والأشغال والمشاريع والنفط. وفي ما سقط عفواً ولا عدّ له. لا نتناول الضريبة عدالة وتكليفاً وجباية. ولا إعفاء "أسماك القرش" من غرامات التأخير والتهرب والإحتيال الضريبين. مع ذلك، هل مجلس الوزراء قادر على إنجاز مشروع  قانون الموازنة؟ وهل مجلس النواب قادر على إقراره قانوناً؟

وزير المال ألمح إلى إمكان استخدام مجلس الوزراء حقه بموجب المادة 86 من الدستور التي تتيح للحكومة إصدار مشروع قانون الموازنة بمرسوم حال عدم إقراره في مجلس النواب في عقد جلساته العادية. وتعذر إقراره في العقد الإستثنائي. لكن العقد الإستثنائي يدعو إليه رئيس الجمهورية غير الموجود بالإتفاق مع رئيس الحكومة. رئيس مجلس النواب أبلغ زائريه أن اسألوا وزير المال عن الرواتب والأجور في حال بقي الوضع على حاله. نعم كل شيء وارد. وعلينا الخروج من دائرة المفاجآت، بعدما دخلنا عاماً ثالثاً على شغور مركز رئاسة الجمهورية ويمنع على مجلس النواب انتخابه. تتعطل المؤسسات، ويضرب الإقتصاد، ويفتقر الناس ويتسيب الوطن. والتخريب مستمر بفجور قلّ نظيره.

هل عادت التحركات الشعبية والمطلبية وحدها التي تجتنب السياسة تجدي نفعاً في ظل هذا الإستعصاء السياسي؟  نشك في الأمر. السؤال نفسه مطروح على مستوى تحسين مؤشرات الحكم النظيف والنزاهة والشفافية، وما يتصل بها من قواعد الرقابة والمحاسبة وإنفاذ حكم القانون والقضاء العادل. وقد بات المواطن يكافح لرد غائلة الموت البطيء نتيجة العدوان على مصادر الحياة هواءً وماءً وغذاءً. لم يحصل هذا في بلاد الهوتو والتوتسي. للعلم، راوندا التي شهدت أبشع مجازر التاريخ الحديث، هي أفضل بلد في العالم نمواً بمتوسط 7.5 في المئة سنويا منذ 2005 بحسب المصرف الدولي والسوق المشتركة لدول شرق أفريقيا وجنوبها "كوميسا". ويحصل في لبنان أن خسرنا خلال 6 سنوات 2011- 2016 نحو 20 مليار دولار أميركي فرص نمو ضائعة. السرقات والقوميسيون خارج الرقم.

ويحصل في لبنان أن فضائح الساسة والوزراء غدت مادة للإرشيف. ويحصل في لبنان أن مسؤولاً أو زعيماً سياسياً مترعاً فساداً ونقيصة تحميه طائفته، ورعاياها جائعون مبتلون يعيدون انتخابه ويجددون بليتهم. ويحصل في لبنان أن جرموذاً صغيراً كافأه جهاز استخبارات دولة أجنبية وزيراً أو نائباً، بات في وسعه القول "نقبل و/أو لا نقبل... وحذارِ". ويحصل أن اللبناني المولود على خانة طائفته، يحق له بـ"الميثاق غير المكتوب" أن يحلم بأعلى مركز في الدولة محجوز لطائفته يمارس فيه السلطة على لبنان واللبنانيين بدستور مكتوب.

لكن ما لم يحصل في لبنان والعالم بعد، أن يشغر مركز رئاسة الجمهورية عاماً ثالثاً، وتُعطل انتخابات الرئاسة، لأن واحداً استطاب القصر الجمهوري في ظروف إستثنائية، يتشبث بعودته إليه في ظروف عادية من خارج مجلس النواب وموجبات الدستور. يستقوي بحليف ذي مخالب، ليس مستعجلاً لانتخاب الرئيس ولإعمال المؤسسات الدستورية. حتى إذا خُيل لـ"القائد الملهَم" أن حليفه سيستخدم ما ملكت يداه لفرضه رئيساً قبل الحضور إلى مجلس النواب، يدخل المجلس رئيساً ويخرج رئيساً. مع نسخة مصدقة من "الكاتب بالعدل".

"ملعون كل من يحاول اقتلاعنا من مجلس الوزراء بعقد جلسة غير ميثاقية والحكومة مطعون فيها في القضاء والشارع. وكل من يحاول اقتلاعنا من مجلس النواب بقانون غير ميثاقي، ومن رئاسة الجمهورية للأتيان برئيس غير ميثاقي". تعرفون صاحب هذه الأراجيف البائسة. تحدث أيضاّ عن أزمة نظام. سنسمع بعد أنه يريد مؤتمراً يقلب الطاولة ويشعل حرباً جديدة متوسلاً سلاح حليفه. ليس لتعديل نظام متهتك جاء به وزيراً، بل لوصول "القائد الملهم" إلى رئاسة جمهورية يعتقد أنها كتبت له ولو على كومة من الدمار. أما البلاد والعباد، فإلى "جهنّم تعجُ بالطيبين وبالملعونين أيضاً". إلى متى يبقى الطيبون بلهاء والفاجرون يلعنون؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها