الأربعاء 2014/10/29

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

حسن نصر الله وخطر الإلحاد

الأربعاء 2014/10/29
حسن نصر الله وخطر الإلحاد
كأن نصر الله يبحث عن عدو جديد لحزبٍ رايته دائما البحث عن أعداء
increase حجم الخط decrease

في احدى اطلالاته العاشورائية، قبل أيام، حذر الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، من "بدايات خطرة" في بلدان عربية، منها السعودية ومصر، وتتعلق بما سماه "موجة إلحاد"...

لا نريد مناقشة نصرالله في كلامه العاشورائي، بقدر ما نودّ التأمل في إلتباس الإلحاد في العالم العربي، ونظرة المجتمعات والسلطات إلى الملحدين، وكأنهم وحوش ضارية ستلتهم الأمة، وهم في الواقع مجرد أفراد لا ناقة لهم ولا جمل، وليس في استطاعهم حمل سكين. جل ما يفعلونه أنه يقولون رأيهم في هذا الوجود الصاخب بالأسئلة والغموض، والذي لا تقدر حتى الأديان والفلسفات على تقديم أجوبة شافية حوله.

في تصريحاته السابقة، كان نصرالله يركز على "محاربة التكفيريين" الدواعش، وهو الآن، في حديثه عن خطر الإلحاد، كأنه يبحث عن عدو جديد لحزب، رايته دائما البحث عن أعداء. والراجح ان نصرالله يستنبط كلامه عن "الخطر الإلحادي" من خلال الاطلاع على بعض المواقع الالكترونية التي يمارس اصحابها مغالاة في مناقشة الدين والأنبياء، من دون ما يسمى "رقابة"، بمعنى انهم يكسرون التابوهات والأقفال الأسطورية، وبعضهم يعيش فوبيا الدين فيستعرض عضلاته الكلامية لمجرد القول "أنا هنا". على أن "المشكلة" التي يقع فيها بعض الكتاب والباحثين، انهم يقدمون ابحاثاً علمية حول الدين وتاريخه وبنيانه وجوهره، يفككونه من خلال الوثائق والدلائل، وتتلقف هذه الابحاث بعض المواقع الالكترونية "اللادينية" أو التي ترفع شعار "الإلحاد"، فيقع الالتباس ويصبح كل باحث في قضايا الدين والوحي والانبياء، ملحداً في نظر المتدينين او الطائفيين أو أنصار "ولاية الفقيه". لا تمييز بين البحث العلمي وحرية الرأي، وبين الالحاد كإيديولوجيا، وهناك مغالاة وجموح من المتدينين الاسلاميين في وصف كل من يتطرق الى الدين بـ"الملحد" و"الكافر".

لا غرابة في أن تولد موجات إلحادية في الزمن الداعشي، فهذا من البديهيات. وفي الواقع، فإن "موجات" الالحاد في العالم العربي والإسلامي، ظهرت قبل الداعشية بزمن أو بأزمان، عمرها من عمر الاديان، لكنها في أفضل الظروف كانت ضعيفة وهامشية ولم تتحول فكراً لجماعة. بقيت استنتاجات فكرية قدمها بعض المفكرين والشعراء، ومعظمهم تعرض للتنكيل من السلطات الاجتماعية والسياسية والدينية. وحين أصدر المفكر المصري عبد الرحمن بدوي كتابه "تاريخ الإلحاد في الاسلام"، استنتج أن الإلحاد هو "النتيجة اللازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكاناتها الدينية، فلم يعد في وسعها بعد أن تؤمن". ويمضي الكتاب راصداً حركة الإلحاد، بدايةً من الزنادقة الأوائل، وانتهاءً بأشهر الملاحدة كابن الراوندي وابن حيان والرازي.

ويزخر التاريخ الإسلامي بالشخصيات التي تجمع بين الإيمان والإلحاد، مثل ابو العلاء المعري وعمر الخيام والحلاج. هؤلاء كانوا عبرة حول حيرة الانسان في علاقته بالكائن الأعلى... حتى في زمن موجات الأحزاب الشيوعية التي تتبع "الفكر المادي"، لم تقدر هذه الأحزاب ان تكرّس الالحاد، بل إن بعض عناصرها كانوا يمارسون نوعاً من الإلحاد الاستعراضي، يمارس بعضهم "الإلحاد" كاستعراض اجتماعي وتمردي. وفي السودان مثلاً، سمح الحزب الشيوعي لافراده بالصلاة للتصالح مع مجتمعهم، وفي لبنان بعض النساء الشيوعيات كن يرتدين الحجاب وبعض الرجال الشيوعيين يذهبون الى الحج. وفي لحظة، انهار "الطيف الإلحادي" السوفياتي، وتحول بعض "الملحدين" الى شيوخ سلفيين أو حجاج في أروقة "حزب الله"...

والإلحاد (كما الإيمان) كان معضلة وسيبقى، وهو سؤال كبير لا جواب له، مثلما أن الإيمان يتضمن سؤال الشك، يتضمن الالحاد سؤال الإيمان والعالم الآخر. وكلاهما، الإلحاد والإيمان، لا يعطيان الجواب الوافي والمقنع والحاسم للإنسان في رؤيته للكون والخلق، وتكون النتيجة أن الانسان يتحول "لا إرادياً" وارتيابياً. حتى كارل ماركس، منظر الشيوعية والإلحاد، كانت علاقته بالإلحاد والدين والله، ملتبسة. كتب أندي بلوندن، الماركسي الأسترالي، إنها لحقيقة مجردة أن ماركس رفض أن يصنف كملحد منذ كان في الثالثة والعشرين من عمره على الأقل. ويضيف أن ماركس ينكر كل ضروب الألوهة والربوبية ووحدة الوجود، بما فيها تلك الضروب التي تنتحل زياً إلحادياً أو فلسفياً.

سبق أن كتبت مقالاً عن الملحدين العرب في إحدى الصحف، وما حصل أنهم نسفوا بنيانه من خلال الحذف بحجة أني تطرقت الى كتاب "الشخصية المحمدية" لمعروف الرصافي، وهو ممنوع في البلد الذي يصدر الصحيفة التي كنت أعمل فيها. كان الهدف من المقال تبيان الالتباس في رأي بعض المفكرين العرب في الإلحاد، والذي عرف بالعلمنة والتنظير للإلحاد والفكر المادي، لكنه، في الوقت نفسه، وفي مرحلة من المراحل، اتهم بالطائفية أو بالعداء لطائفة من الطوائف. فالشاعر معروف الرصافي، الذي كان أقرب إلى العلمانيين، في أبحاثه حول التاريخ الديني، كان علمياً وأخرج النص الإسلامي من تحت ظلاله المقدسة، عرّاه بطريقته، فدوّن كتاب "الشخصية المحمدية". هذا الكتاب الضخم كان كافياً لزعزعة الكثير من الأساطير الدينية، من مؤلف كان يمدح زعيم البلاشفة لينين، وقال في إحدى خطبه في البرلمان العراقي: "إني شيوعي لكن شيوعيتي إسلامية، لأنها وردت في القرآن في قوله تعالي "وفي أموالكم حق للسائل والمحروم".

لم يكن الرصافي متديّناً، بل له فلسفته في الإيمان، وما يراه في النبوة والإمامة مخالف للسواد الأعظم. فمثلما انتقد زيارات القبور ومراسم اللطم والبكاء الشيعية في كتابه "الرسالة العراقية"، كذلك انتقد تقبيل الحجر الأسود والتبرك به في "الشخصية المحمدية"... وفوق ذلك، كان الرصافي ارتيابياً، إيمانه كـ"الإلحاد البارد"، كما يقول عنه الباحث في الأديان رشيد الخيون، وكان مثل ملهمه في فلسفة الوجود والحياة - الشاعر أبو العلاء المعري. كانت حياة الرصافي قائمة على التناقض، ففي الليل يعكف على الشراب والميسر، وفي النهار هو ذلك الإنسان المتزن والشخصية المهابة التي تمارس دورها في البرلمان العراقي.

وبسبب مواقف الرصافي الحادة من بعض القضايا في المسألة الشيعية، يسأل الكاتب العراقي سلام عبود: "هل كان الرصافي طائفياً؟"، ويبين الكثير من القضايا الملتبسة والسقطات في علاقة الرصافي بالدين والطوائف. لكن رشيد الخيون يجد أن مَنْ يبحث في صلات الرصافي مع أعيان الشيعة وبغضه للعهد الملكي السُنّي بالعراق، سيجده بعيداً من الطائفية بمفهومها الرائج.

لا شك في أن "إلحاد" الرصافي وإيمانه كانا جزءاً من شخصيته وتناقضاته، ويفتح الجدل حول علاقة المثقفين بالطوائف والدين. لنتذكر المفكر اللبناني حسين مروة، ابن الأسرة الدينية، والذي سافر إلى العراق لتلقي العلوم الفقهية في حوزات النجف، وهناك تحول إلى الفكر الماركسي. ورغم ماديته، بقي في كتاباته النظرية، يمزج بين "شيعيته وشيوعيته"... الرصافي يشكل النموذج لعشرات المثقفين العرب، بدءاً بأدونيس وصولاً إلى أنسي الحاج...

ثمة موجة إلحاد (عربية) خفيفة وغير مجدية، وقد لا تخرج الآن عن كونها ظاهرة انترنتية، مكونة من أفراد "يفشون خلقهم" من خلال الشبكة العنكبوتية. لكن، لا ندرى مدى تأثيرهم في الواقع. فوحش التطرف الاسلامي، "يسحر" الجمهور أكثر من تلك الأفكار الفلسفية والنقدية، ربما لأن الإنسان لم يجد جواباً حقيقياً حول ماهية الموت، في حين أن الدين الإسلامي خصوصاً، وبأسلوب الترغيب والترهيب، يعطي وعداً بالفردوس.

إلى ذلك، يتخذ البعض من الإلحاد، ايديولوجيا، وهؤلاء يغالون في الحديث عن هذا الفكر، مثل الباحث محمد المزوغي في كتابه "ما للإلحاد من مقولة"، والذي "يرى أن الظروف الراهنة تحتّم على المفكرين الأحرار إعادة الخوض في مسألة الإلحاد بجدية، لأن العقلانية في العالم العربي الآن تواجه مخاطر كبيرة، خصوصاً بعد زوبعة "الربيع العربي". وما يكتبه المزوغي شحن كلامي ومتوتر، من عالم يضج بالخرافات الفكرية والدينية. وسبق المزوغي، اسماعيل أدهم الذي أصدر في الثلاثينات من القرن الماضي، رسالته "لماذا أنا ملحد"، وهو يورد كيف كان يتلقى التعاليم الدينية على يد زوج عمته قهراً، ويقول في ذلك: "كانت نتيجة هذه الحياة أني خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات واستعنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمي، وأشد ما كانت دهشتي وعجبي أني وجدت نفسي أسعد حالاً وأكثر اطمئناناً من حالتي حينما كنت أغالب نفسي للاحتفاظ بمعتقد ديني"، ثم يقول: "فأنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد، ومرتاحة إليه فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه".

هذا غيض من فيض عن صورة الإلحاد في العالم العربي، الذي ما زال يرزح تحت معضلة الجموح الديني، وربما لن ينجو منها إلا بعد مئات السنين. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها