الثلاثاء 2015/12/22

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

الخلاص الصوفي: بشير الجميل وميشال عون

الثلاثاء 2015/12/22
increase حجم الخط decrease
(إلى فادي أبوخليل)

يبدو لي أن أجواء الفيلم اللبناني "كتير كبير" لميرجان بو شعيا، وشخصياته ولغتها، مستمدّة من مجتمع شباب "القوات اللبنانية" في ضواحي بيروت الشرقية في ثمانينات القرن الماضي. وتحديداً ممّا آلت اليه الحرب و"القوات" بعد اغتيال مؤسّسها وقائدها ومثالها ونجمها الشاب بشير الجميل. آنذاك كان بوشعيا (ولد في منتصف الثمانيات) لا يزال طفلاً بعدُ. والأرجح أنه مِن صور طفولته في تلك الحقبة إستعاد مادة فيلمه في محاكاة بارودية وفانتازية، ليختتم المشهد الأخير من الفيلم بمحاكاة الأحوال اللبنانية الراهنة.

ما أوحى لي بأن فيلم "كتير كبير" يحاكي تلك الحقبة وصورها، هو الصداقة التي جمعتني بالشاعر والممثل اللبناني فادي أبو خليل عندما كان شاباً حمله قلقُه وعزلتُه وغربتُه في الأشرفية و"بيروت الشرقية" ما بعد حرب السنتين (1975-1976) على الانسلال اليومي إلى بيروت الغربية منجذباً إلى طلب نمطٍ من الحياة اليومية المدينية الحرة والمنفلتة والفوضوية والممتلئة في شارع الحمراء ومقاهيها ومكاتب صحفها. والحق أنه أخذ يهرب من الأشرفية وهامشيته وعزلته فيها ليطارد صوراً لبيروت الستينات والنصف الاول من السبعينات، من دون أن يعرفها ويعيشها إلا في مخيلته وتهاويمه الفنية المفارقة، وحالماً بأن يستيعدها ويعيشها ويكتب الشعر ويشارك في أعمال مسرحية وسينمائية. هذا بعدما صوَّرت له مخيلته وصوّر له مزاجه أن الحياة في الأشرفية وبيروت الشرقية على حال من الفراغ والخواء الممتلئين بالانتظام او الانضباط الاجتماعي النمطي غير القابل للاحتمال لأمثاله الهامشيين والمتمردين تمرداً فنياً وشخصياً على مجتمع الحرب الذي صنعته "القوات اللبنانية" في البيئة المسيحية.

وممّا رواه لي فادي أبو خليل، الهارب حياتياً وثقافياً الى بيروت شارع الحمراء، تزودتُ بصور عن نماذج من شخصيات مجتمع الحرب في البيئة المسيحية إبان حرب السنتين وما بعدها. وكان الشاعر شارل شهوان قد صوَّرَ بدوره وجوهاً من حياة شبّان مجتمع حرب السنتين المسيحي في كتابه القصصي الاستثنائي "حرب شوارع". هذا فيما كان الشاعر أنطوان أبو زيد يكتب وينشر قصائد عزلاته الروحية والمادية في ذلك المجتمع، وكذلك نصوصه النثرية عن تلك العزلة في "حي الغيلان" شبه الزراعي على أطراف الدكوانة والنبعة. قبل أن يسجّل في كتابه "المشّاء" لهاثه اليومي في خواء إجتماعي بين الجبل والساحل. أما الشاعر الكبير وديع سعادة فكان في تلك الحقبة نفسها يكتب سيرته شعراً جديداً باهراً يقترب من ملحمية مأساوية يائسة تعود بداياتها إلى الحرب العالمية الأولى، راوياً سيرة عظام الموتى والذين طحنوا العظام ليدفعوا عنهم الموت جوعاً.

طوال وقت مشاهدتي "فيلم كتير كبير" لم يغب عن مخيلتي طيف فادي أبو خليل وسيرته التي انتهت باختفائه أو بعودته إلى أهله في ذلك الخواء قبل سنوات كثيرة. وكثيراً ما فكرتُ أن فيلم بو شعيا طالع من مخيلة أبو خليل الشخصية والسينمائية. كما أنه يتقاطع مع بعض ما روته انديرا مطر في نص كتبته أخيراً في العدد ما قبل الأخير من "ملحق النهار" عنوانه "النبعة: الشوارع للشهداء والسطوح للأعراس"، مستعيدة شذرات من سيرة مجتمع التهجير والحرب المسيحي في النبعة. وذلك بعد اغتيال بشير الجميل الذي عاش المجتمع المسيحي اللبناني، صعود نجمه الحربي والسياسي الصاعق ووصوله إلى رئاسة الجمهورية، كحلم صوفي للخلاص. لكنّ اغتياله بعد أقل من شهر على انتخابه رئيساً، سرعان ما حوَّلَ ذلك الحلم صدمةً هستيريةً صاعقة، تحولت بدورها شعوراً مديداً باليتم السياسي والزعامي. وهو اليتم الذي استغلّه الجنرال ميشال عون وجعله بحروبه الخلاصية العشوائية المدمرة، وسيلةً للوصول إلى رئاسة الجمهورية. وكان إن انجلت حروبه تلك عن تدمير حافظ الأسد القصرَ الجمهوري اللبناني وفرار الجنرال منه إلى فرنسا، تاركاً لبنان والمجتمع المسيحي والقوات اللبنانية في حال من اليتم والتصدّع والضياع والسواد الكبير، ولقمة سائغة ابتلعها دكتاتور دمشق.

لكنَّ هذا كله لم يخمد الطموح الشخصي العاري، الوقح والهستيري، لجنرال الحروب الخاسرة إلى رئاسة الجمهورية، بعد غيابه 15 سنة عن لبنان الذي أعادته اليه "ثورة الأرز" فانقلب عليها محوِّلاً نسله السياسي وجمهوره المسيحي الوصولي مطيّةً لحزب الحروب الداخلية والإقليمية الدائمة في لبنان وعلى لبنان، علّ هذا يوصل الجنرال العجوز المتصابي إلى قصر بعبدا الرئاسي، ليورّثه على المثال الأسدي لولده المستعار بالمصاهرة.

كل هذه المقدّمات والاستطرادات للقول ان فيلم "كتير كبير" يصوّر وجهاً من مجتمع الحرب ونماذج من شخصياته ومآلاتها في البيئة المسيحية اللبنانية. وهو مجتمع أُرغِم على دخول الحرب مدفوعاً بطهرانية عبادته وطن الأرز اللبناني عبادةً صوفية خلاصية. وفي هذا النوع من الحروب تختلط الطهرانية والصوفية الخلاصية بالعنف والدم والقتل والتدمير والحرب والتهجير والهجرة والانهيار الاجتماعي والاخلاقي، وصولاً إلى انهيار حلم الخلاص بعد اغتيال بطله ونجمه الساحر بشير الجميّل. إذاك لم يبقَ من الحلم سوى العنف شهوة الوصول العنيفة إلى السلطة مختلطة بالإغتيالات والمكائد والإغتصابات والمخدرات والصفقات، على المثال الذي جسّده ايلي حبيقة ونقيضه التائب توبة أخلاقية أسعد الشفتري. وفي خضم ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته عاش المجتمع المسيحي إحباطات أحلامه الصوفية متنازعاً بين هذين النموذجين النقيضين اللذين كانا يجتمعان في شخصية بشير الجميّل المتمرّد على بيئة التسويات العائلية والأهلية التي نشأ عليها لبنان السياسي حتى عشايا الحروب الأهلية الملبننة.

واذا كان قائد "القوات اللبنانية" الأخير سمير جعجع قد أُدخِل السجن في مطالع التسعينات فإن القوات عاشت بعده مآسي تمزقها متنازَعة بين نماذج شتّى. كثيرون اختاروا الفرار والهجرة، وسواهم اختاروا الرهبنة طريقاً الى الغفران والخلاص. فادي أبو خليل وسواه من أمثاله الكتّاب والشعراء ومجموعة نادي انطلياس الثقافية وبقايا "حركة الوعي" الطالبية الجامعية اختاروا الكتابة والشعر والصداقة سبيلاً إلى العيش على هوامش مجتمع الحرب وخياراته المأساوية المريرة التي دفعت البعض إلى الجريمة والمخدرات فيما استأنف كثيرون النضال السلمي ضد احتلال جيش حافظ الأسد ووارثه لبنان.

أمّا الجنرال ميشال عون فاختار المزج الرقيع بين سوقية ايلي حبيقة ووصوليته وبين صوفية بشير الجميل الخلاصية، لإنشاء سلالة سياسية وصولية علّها تمكّنه من الفوز بقصر بعبدا الرئاسي. هذا فيما كان "حزب الله" طوال ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته وحتى الساعة يصنع للطائفة الشيعية في خضمّ مجتمع الحروب والتهجير والقتل مثالاً جديداً هو مثال مجتمع الشهداء الحسيني الكربلائي والعاشورائي للخلاص الصّوفي الاستشهادي.

دائما تنطوي طهرانية الخلاص الصوفي على عنف تطهيري وسوقيّة مبتذلة. وفيلم بو شعيا يصور العنف والسوقية بعد زوال حلم الخلاص الطهراني.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها