الثلاثاء 2015/09/01

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

الدولة في أدوارها الأبوية La tête haute

الثلاثاء 2015/09/01
increase حجم الخط decrease
يقدم الفيلم الفرنسي "La tête haute" (الرأس الشامخ)*،  شذرات من حياة مالوني الصبي العنيف والجانح، من خلال عرض يوميات احتكاكه مع مؤسسات الدولة الإجتماعية التي تحاول اصلاحه. ويفتتح الفيلم منذ بدايته في مؤسسة الرعاية الإجتماعية التي تأوي الصبي (6 سنوات) الذي تخلت عنه والدته. ينتقل مالوني بعد ادانته في سرقة سيارة وتماديه بأعمال عنفيه، بين مؤسسات الدولة الإصلاحية التي تصل فيه لاحقا بعد ارتكابه أعمالا جرمية أخرى الى محكمة الأحداث والسجن.

في المشهد الافتتاحي القصير(5 دقائق)، أرادت صانعة الفيلم إمانيويل بيركوت أن تختصر أسباب تحول الصبي الى ذلك الكائن العنيف: مكتب امرأة نعرف لاحقا أنها قاضية متخصصة في قضايا الأطفال والمراهقين، تجلس في مواجهة والدة مالوني مشتكية من تصرفات ابنها المضطربة. تقول الأم إنها أصبحت وحيدة بعد موت زوجها، ولم تعد تحتمل عدائية ابنها المتمادية وعليها الآن الإهتمام بطفلها الرضيع الثاني. لكن مالوني الجالس قربها على الأرض لا يبدو عليه وقتها أي تصرف غير طبيعي وهذا ما ترده الأم الى محاولته إغاظتها فقط والإنتقام منها من خلاله اظهاره صورة مغايرة لحقيقته، ما يدفعها في لحظة غضب على اتخاذ القرار بتركه الى مصيره في تلك المؤسسة، متنصلة منه.

يرتكز الفيلم على هذا المشهد الافتتاحي القصير(5 دقائق)، فتصير كل الأحداث من بعده، كترددات له فحسب. وكأن تلك الحادثة بما تحمله من عناصر، ستكون كافية لرسم حياة صبي كُتب قدره في تلك السنوات الأولى من طفولته. يوجه مالوني في ذلك الوقت عنفه نحو أمه فقط، وقد بدا غير مكترث بالأشخاص الجالسين معها في المكتب. كأن عالمه يومها قد تشكل منها فقط وعنفه الذي نفترض أنه أداة انتقام، لم يكن قد توجه بعد نحو الدولة. نفترض كذلك أن لعنف الصبي الذي تتحدث عنه الأم، علاقة ما بغياب أبيه وفي عدم تلقيه الاهتمام الكافي منها، خاصة مع وجود طفل رضيع معها.



تصير الدولة كالأب الرمزي لمالوني بعد انتقاله إلى أحد مؤسساتها، وتعود عليها مهمة اصلاح الولد وتوجيهه، وهذا ما تفشل به حتما. فمالوني وبعدما قفز فينا الزمن 7 سنوات الى الأمام صار منحرفا وجانحا، تورط في أعمال ستؤدي به إلى السجن. ينتقم مالوني من كل شيء حوله. يترك المدرسة بعد ضربه أحد التلاميذ ويتسبب بأعمال شغب في الصف والحي. يبحث المراهق عن طرق لتفريغ تلك الطاقة المتفجرة لديه فيسرق سيارات لقيادتها بطريقة جنونية، ما يأخذه لاحقا الى المحكمة بعد رفع أحدى المتضررات منه دعوى قضائية عليه.

في مكتب المحكمة الذي تفرغه القاضية من كل الأداوات الحادة خوفا من أن يستخدمها الصبي ضدها، تبدو حائرة أمام هذا المراهق. فالقاضية نفسها كانت قد شهدت في المشهد الافتتاحي من الفيلم، على تخلي أمه عنه وعن ما يبدو أنه شكل عاملا أساسيا في تحوّله الى الجنوح والعنف. تضع القاضية لمالوني مرشدين اجتماعيين لمساعدته على تحسين سلوكه، لكن هذا لا ينفع في تغييره. يضعنا الفيلم أمام عبثية الأدوات التي تتبعها الدولة ممثلة في القاضية في هذا الإصلاح، وربما أمام نتائجها التي تتحول مع الوقت لتنقلب عليها. ففشل النظام الإصلاحي والإجتماعي في تغيير الصبي، يضعها في موقع ملتبس وتصير بعد ادخاله الإصلاحية عدة مرات، مجبرة على ادخاله السجن كأنها تعاقب ابنها الذي فشلت في تربيته. ويدفع مالوني بعد دخوله السجن، ثمن فشل الدولة ومؤسساتها ويلتقي هناك بآخرين يدفعون ربما الثمن نفسه لكن كل بطريقة مختلفة عن الآخر.

لا ينتهي الفيلم هنا، لكنه يقدم حلاً لتغيير الصبي واصلاحه. يلتقي مالوني في الإصلاحية بفتاة هي ابنة أحد معلماته. هناك تعلّمه الفتاة كيف يحب فيتماهى مع تلك العاطفة أكثر لتصبح بطريقة أو بأخرى أداة تهذيب وتغيير لشخصيته. بعد الحب تتراجع نوبات غضبه تدريجيا كما أنه يبدي قابلية أكثر على التعلم. في أحد صفوف الإصلاحية التي تشرف عليها طبيبة مختصة في إعادة الثقة بالنفس للمراهقين، يواجه مالوني الموقف نفسه لكن الآن عن طريق الطبيبة التي تقوم بجلسة مساج وتوشوش له خلالها، كلمات دافئة تعيد احساس الصبي بنفسه. في ذلك الكلام الدافئ الذي يسمعه من صوت منخفض وفي مكان شبه مظلم، تصير المرأة كأنها تتحدث الى ذلك الطفل الذي كانه مالوني في بداية الفيلم وما يعيده ربما أكثر الى صوابه.

يغير الحب وجلسة المسج للصبي من مسار الفيلم ليتحول مالوني بعدها الى شخص جديد. يصير التقاءه بفتاة عن طريق الصدفة أحد حلول مشكلته. وهذا ما لم يكن ليحصل في السابق بسبب وجوده الدائم في الاصلاحية او في السجن مع ذكور جانحين فقط، ما يضعه في موقع قاسٍ حتما يكون عليه التماهي مع رفاقه بدل التماهي مع العاطفة الأنثوية التي فهمنا لاحقا أنها كانت عاملا أساسيا في تغييره. كما أن الحل الآخر كان دخوله أحد الصفوف في الإصلاحية التي ساهمت بشكل أساسي في إعادة احساسه بذاته والتي كان لها الأثر الأكبر في تحويله الى شخص آخر. يتضافر في الفيلم عمل القدر مع عمل مؤسسات الدولة ليقدما حلا جزئيا ربما لمشكلة بدت للحظة عصية عن الحل، وهي في مكان آخر وفي بلدان أخرى ما زالت عصيّة وتعيد انتاج نفسها باستمرار يوميا مع شباب آخرين.

(*) يعرض حالياً في سينما ميتروبوليس، وكان افتتح المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" في أيار الفائت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها