الأحد 2014/08/31

آخر تحديث: 14:16 (بيروت)

محامي الإمبراطورية

الأحد 2014/08/31
محامي الإمبراطورية
"مدام بوفاري على سرير الموت" (ألبير أوغست فوري)
increase حجم الخط decrease

لطالما شهد تاريخ الأفكار، رصد مواقف متعنتة في مواجهة التعابير الثقافية (الأدب، التشكيل، الموسيقى، السينما، الشعر...)، تلك التي يُنظر إلى بعض نماذجها على أنه تهديد للقيم الجمعية القطيعية دينياً و/أو أخلاقياً، ومهدم للوحدة المجتمعية، ولكأن الرقابة والمنع والحجب في ذلك السياق هي نماذج بنائية للوعي والقيم والأخلاقيات والأمم!

ولعل الاستحضار التاريخي لتفاصيل المواجهة بين الفكر والسلطة، يعدّ تفكيكاً بنيوياً لما يتواتر في أيامنا هذه من تنويعات على الفكرة السلطوية القديمة، قِدَم تفاحة آدم لمفهوم المنع والقمع. فرواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير –مثالاً لا حصراً- ومحاكمتها نصّاً، شخصيةً أو راوياً،  تُعد تجسيداً للمواجهة بين أدوات العقل الرقابي المانع والعقل الإبداعي، ما يمكننا من تعقب مقولة المفكر الفرنسي ميشال فوكو: "لا تقعوا في حب السلطة، فتسحقكم نصوصها"، وبالذات إذا كان "حب" تلك السلطة يتدثر بإدعاءات تنويرية تقدمية تحرّرية. لا يرى حينها "المثقف" موقعه المهادن للسيف في وجه القلم، غافلاً عن أن السلطة في هذه المزاوجة إنما  تضع نفسها مركزاً مستحوذاً حصراً على كل القيم بالمنح والمنع، وهندسة وتشكيل الآخر، لتعريف ذاتها به.

فرغم ما تمثله "مدام بوفاري" من مأثرة سردية، حوكم فلوبير لأنه طرح نموذجاً للمرأة الجديدة التي تتحدى نسيج مجتمعها الضام، ولا تتردّد في التباهي بكسر أنماطه السلطوية متباهية برغباتها التي تطاردها. ففي مطلع العام 1857 عُرضت أمام محكمة جُنح باريس التهمة الأخلاقية ضد "فلوبير"، وتولى إرنست بينار، محامي الإمبراطورية الفرنسية، عرض الإتهام على النيابة العامة، "مستلهماً" (والواقع "مستحوذاً") الأخلاقيات المسيحية لدرء الفتنة التي تبشّر  بها رواية فلوبير. فالسيد بينار يصرح بأن ما يثير العجب في شخصية "مدام بوفاري"، هو  أن مؤلفها جعلها "شهوانية يوماً ومتدينة في اليوم التالي". فليس ثمة إمرأة في العالم "تتمتم لله بتنهدات الزنى التي تصعدها نحو العشيق"، إذ أقحم المؤلف "عبارات الزنى" في "معبد الله". وسرعان ما صاغ "محامي الإمبراطورية" قراراً: "إنني أؤكد أن رواية مدام بوفاري ليست أخلاقية إذا واجهناها من الناحية الفلسفية. لا شك أن مدام بوفاري قد ماتت بالتسمم، ومن الحق أنها قاست كثيراً، لكنها ماتت في اليوم والساعة المقدّرين لها. لم تمت لأنها زانية، بل لأنها أرادت أن تموت، وقد ماتت في عنفوان شبابها وجمالها. ماتت بعدما كان لها عشيقان تاركة زوجها يحبها ويعبدها"، ثم إنه لا توجد في الكتاب بأكمله "شخصية واحدة تستطيع أن تدينها"، "شخصية واحدة يمكن أن تحملها على أن تطأطئ الرأس، وإذا لم تكن هنالك فكرة أو سطر يمكن أن يسفه الزنى، فإنني أكون على حق ويكون الكتاب ضد الأخلاق".

قفز المحامي بينار فوق الطبيعة الإشكالية التي رمزت وأسست لها شخصية "مدام بوفاري" في سياق التطور الاجتماعي والثقافي في فرنسا القرن التاسع عشر، حيث احتدم الصراع بين القيم الفردية الجديدة، والقيمة الجماعية الموروثة في تمهيد تاريخي للثورة كفكرة، وذلك انتصاراً لسلطة المؤسسة التي تنتج حالة القطيعية –من "القطيع"- في الإدراك الذاتي. وبالتالي فقد كان بعيداً من فردانية التعبير الإنساني عن الحاجة والرغبة، قبل أن تكون تلك الفردانية أساساً في تأسيس الجماعة، وخلق المؤسسة وإجراءاتها. وبالتالي فـ"محامي الإمبراطورية" لم يتفهم دلالة التعبير/الفعل الإنساني، بل توقف لدى الفعل نفسه، كما قوم نوح إذ كانوا يتوقفون أمام النبي ويغمضون عيونهم مقنعين أنفسهم بأنه غير موجود.

هنا وجب التوقف أمام المفارقة بين "الفعل" و"دلالته" ونزوع "محامي الإمبراطورية" -أي محامي وأي إمبراطورية؟- إلى تجاهلهما وتجييرهما إلى مفهوم "المؤسسة" في الفكر والثقافة والمجتمع والدين والإحساس، ومتانة التعبير المؤسسي عن كل ذلك، أو ما أسماه فوكو "نص السلطة". فقد استوحى "فلوبير" شخصية "مدام بوفاري" من سيرة إمرأة من منطقة "روان" عرف عنها الإفراط في قراءة الأدب الرومانسي، فوجدت أن رتابة حياتها لا تتوافق مع جموح مشاعرها، ما دفع بها إلى البحث عن إشباع لرغباتها، ما أدى إلى انتحارها، جاعلًا منها "علامة" -بالمنطق السيميائي- لتمثيل النزاع بين القيم العامة والخاصة، وهو ما لا ترتضي السلطة أن يكون نصها للفرد الفرنسي.

لم يتوقف الأمر عند هذا التواطؤ الواضح مع النص السلطوي، فقد جاء ما هو أخطر من ذلك وإن بدا تقدمياً تنويرياً مثقفاً. إذ تقدم الناقد، سانت بيف، معارضاً المحاكمة، معلناً موقفه الإنساني، من الإجحاف الواقع على فلوبير، فيما عاب على الأخير تغييب الخير أكثر مما ينبغي، والإحتفاء بالشر المطلق، معتبراً أن انبثاق الرواية من العلاقة الحية بين الروائي وواقعه، يحتم وجود شخصية في فضاء السرد "من شأنها أن تواسي القارئ وتريحه بمشهد خير، فذلك ما يجافي الواقع، ولا يجوز أن تعرض الرواية عالماً يخلو من نزعة الخير مهما كانت الفكرة التي تريد التعبير عنها، لأن الخير والشر متلازمان، ومن الواجب إرشاد الروائي، إلى أن الشخصية الشريرة يمكن أن تحول مسارها إلى الخير، وليس أن تجافيه كما فعلت المرأة التي اختارها بطلة لروايته".

هنا، لا فارق بين "محامي الإمبراطورية" و"الناقد" في ما يتعلق بالسلطة. فكلاهما يفرض "سلطة" ما لخدمة المؤسسة، يفرضها الأول –المحامي- على الفعل ذاته، فيطلب إلغاء الفعل الفردي للشخصية، بحكم إمتلاكه وحده –ممثلًا للإمبراطورية- الحق في منح القيمة الأخلاقية أو منعها عن أفعال الأفراد في المجتمع، كاستحواذ للقيمة الأخلاقية لصالح المجموعة/القبيلة/المجتمع/الامبراطورية في مقابل فردية أي فعل إنساني والحرية لتنفيذه. أما الثاني –الناقد- فلا يلغي الفعل. بل يقر بحرية الشخصية –وحرية للكاتب أيضاً- فيه، إنما ينتزع الحق في تأويل دلالة ذلك الفعل لصالح السلطة/المؤسسة، التي تنتج مفهوم "الخير" و"الشر" في الفضاء العام، الفضاء المشترك بين الشخصية وفلوبير والناقد والقارئ معاً، وتموضع دلالة الفعل الخاص بـ"مدام بوفاري" في مواجهتها وحدها، باعتبارها أنها هي الخير البين وأن شخصية "مدام بوفاري" هي الشر البين بأفعالها. وبالتالي يتم تجيير الرواية لتقديم غسيل أخلاقي للسلطة/المؤسسة، وتمظهراتها المجتمعية و الأخلاقية والمعرفية وجعل الرواية مجرد "نص" سلطوي، لنتمكن من تقديره أدبياً وفنياً ونقدياً علينا أن "نحب السلطة" والمؤسسة، كما قال فوكو، مهما سحقتنا.

إن استعادة تلك النماذج التاريخية يعد مهماً في فهم النزوع الرقابي في السياق العربي لقمع أفكار (مهما كانت وجاهة تلك الأفكار أو ضآلتها!)، لا تنجو من الإشتباك مع "السلطة/المؤسسة" واستحواذاتها، لا بالمنطق المباشر فقط ولكن بشكل إدراكي كذلك، وبالذات مع ما أنتجته المؤسسة من "مثقف" وظيفته غسيل المؤسسة/السلطة في المنظومة العقلية الجمعية، والمشاركة المباشرة في تقنين ومباشرة عملية المنع والحجب، في مواجهة فعل إنساني يبدأ على الدوام من حرية الفكرة والتعبير، فردياً وجمعياً، وصولاً إلى الثورة.

increase حجم الخط decrease