الخميس 2015/01/29

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

ليالي المدن: القاهرة صاحبة المساء

الخميس 2015/01/29
ليالي المدن: القاهرة صاحبة المساء
ليلة موسيقى ورقص في حي شبرا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
1
القاهر مدينة لا يلائمها النهار. هكذا توصلت إلى استنتاج مناسب، مع استمتاعي بصباحات مدن أخرى، بعدما ظللت سنوات متصورًا أن المسألة خاصة بطبيعتي البيولوجية. نعم هناك مدن أستطيع الاستيقاظ مبكرا أثناء الإقامة فيها من دون تأفف، وهي، بالمناسبة، مدن لا يلائمها الليل.

2
المدينة مفرودة تحتنا.
آلاف اللمبات، صنعت سلاسل دائرية وطولية متشابكة، تمتد حتى الأفق.
الطولية شُقت بها طرقا رفيعة، تمر فيها سيارات قليلة مسرعة، في ذلك الوقت المتأخر من الليل.
وفي البُعد القريب، تناثرت، مبان معدودة عالية، يمينًا ويسارًا، في غير تنظيم. فوقها أنوار حمراء، تضيء وتنطفئ بشكل منتظم.
الطقس يميل للبرودة، لكنه منعش، وصفحة السماء مزرقة وواضحة، رغم عدم وجود قمر. وموسيقى أجنبية، تنبعث من أحد أركان الساحة الخارجية للمكان الذي نجلس عند سوره الحجري المنخفض.
المدينة ليست نائمة، كما يهيأ لصديقي الغريب، الذي يتفرج عليها من هذه الناحية.
رواد البارات في وسط البلد، والمنهمكون في ألعاب المقهى، اختلطت داخل آذانهم ضحكات عالية وارتطام الكؤوس بالطاولات، مع صوت أم كلثوم الذي يستطيع الذهاب بهم إلى ما يأملونه من حال: بهجة وصياح، ثِقل، خمول، أو حزن.
صديقي الغريب، لم يكن يعرف أن القاهرة تعيش مرحلة تعافٍ من فترة ما بعد حظر التجوال الذي امتد لشهور، لم تحتمل نوم أصحابها مبكراً، فتحت المقاهي والبارات. يبدو أنهم بدأوا في تلبية النداء، وهم لا يعرفون شيئا عن الجالس عند حافة الضاحية العالية.

3
يقول محمود درويش:
"كل مدينة لا تعرف من رائحتها، لا يعول على ذكراها".
لو أن للقاهرة رائحة حلوة، فهي لا تفوح إلا في الليل، حيث الشوارع والمباني مغسولة من شوائب نهار قاسٍ، افترشته طبقات لأزمنة، تركت أثرها على البيوت والوجوه وأمام المحال. في الليل سترى ميدان التحرير أكبر من اللازم، يليق به الخلو إلا من سيارات المنتهين من سهرة أو عمل متأخر، بينما بعض الميادين الصغيرة، تبدو كقطع الاكسسوار المشغولة يدويا، ربما تتأملها وأنت تتمشى، أو داخل سيارتك منتظرا في منتصف الخط المستقيم بين ميداني طلعت حرب ومصطفى كامل مثلا، قبل أن تسمح لك إشارة المرور أن تعبر، هي ذاتها الإشارة التي تحاول جاهدا تجاوزها في قسوة النهار.
أيتها المدينة الشبيهة بدمية عملاقة، لن يستطيعوا التعرف على ليلك من عند حافة الضاحية العالية. تعرف.. هي مدينة، توفر لأصحاب الليل شيئا من الانبساط بقدر ما لكل منهم من إمكانيات، مادية أو اجتماعية، أو حتى ثقافية. أنت، ببساطة تستطيع أن تجد من يشبهك، ويشاركك الماء في الحانات، أو يشاركك الهواء داخل علبة ليلية توارت هنا أو هناك.
في الليل تتحول المدينة المتوحشة إلى مساحة يسهل الانزلاق داخلها من مكان لآخر، ولا تقلق أن يغلق البار المفضل لديك أبوابه مبكرا، لأنك، ببساطة، ستعبر الشارع لتدخل باراً آخر مفضلاً لديك أيضا، ثم إن أصغر هذه البارات وأضيقها مساحة، يشفع له أنك تولي وجهك هنا أو هناك لترى ركناً شاركك فيه أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله ومحمود درويش والطيب صالح وغيرهم من الذين جعلوا "الجريون" أو "ستلّا" أشهر بارات المثقفين في العالم العربي، يجمعان الزبائن أنفسهم تقريباً، رغم التنافر بين شياكة الأول باتساعه وعطن الثاني بضيق مساحته.

4
لأنها في النهار، تتجاوز فكرة المدينة، وتزحف بضواحيها فوق أرواح سكانها، تتنازل عن أي معنى للجمال والحياة، بحركة حياتية مضمونها الشقاء، بينما يستطيع قلبها ليلاً، أن يستقل ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة المزعجة، لتوفر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء.


(*) الحلقة الأولى من ملف "ليالي المدن"، ينشر تباعاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها