الخميس 2015/07/30

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

هارون صالح: "كانّ" سرّ كبير.. والتشاد تتصالح مع السينما

الخميس 2015/07/30
increase حجم الخط decrease
 وصل المخرج التشادي هارون محمد صالح (1961) الى بساطة معبرة جداً في تثبيت ركائز الحكاية في أفلامه. فهو من الذين يؤمنون أن إخبار القصة عبر الصور اهم من اخبارها بالحوار. كونه فرانكوفوني ومقيم في باريس منذ سنوات، وبما ان بلاده خضعت للاستعمار الفرنسي وأتمّ دراسته في بلد المستعمر، فقد تأثر كثيراً بالافلام الفرنسية.

يأتي هارون من بلاد، هي التشاد، دُمرت فيها صالات السينما والبنى التحتية. فبات مصيره ان يخرج افلاماً "متنقلة" تسافر وتعرض في البلدان التي تدعى اليها، وهذه حال كثيرين يعرفهم صالح. "احياناً، تسنح لنا الفرصة بعرض افلامنا في بعض البلدان"، يعلق صالح، مسلّماً بأن هذا مصير الافلام المتنقلة. فهي تتوقف في البلدان التي تفتح لها المجال وحالياً هذه البلدان هي البلدان الاجنبية. هل هذا الامر مرتبط بواقع ان فرنسا تنتج افلامه؟ "نعم، صحيح أن البلدان الاوروبية انتجت فيلمي ولا سيما فرنسا، لكن ليس هذا السبب الذي يجعل منه فيلماً متنقلاً"، يقول في ردّ قاطع.

حرب أهلية
فيلمه المعروف "باي باي أفريقا" (1999) مهّد له الطريق. "أبونا" (2002) أطلقه. و"دارات، موسم جاف" (2006) كرّسه كمخرج مؤلف، بعدما نال عنه جائزة "تنويه النقاد" في مهرجان البندقية. أما "رجل يصرخ" فكان ردّ اعتبار غير معلن، لسينمائي يروي المعاناة الافريقية وأوجاع قارة من دون استدرار عواطف أو "اكزوتيكية" مملة يقع فيها أحياناً مخرجو القارة السوداء. وطبعاً، لم يكن عرضه في مهرجان "كانّ"، حيث نال جائزة لجنة التحكيم العام 2010، سوى تتويج لسينما فقيرة "محمولة على الظهر"، لا سيما ان هذه السينما الافريقية كانت قد غابت عن المسابقة الرسمية لأهم مهرجان في العالم، منذ 13 عاماً.

هناك نوعان من المخرجين: بعضهم يستوحي من الحياة وبعضهم الآخر من السينما. أما صالح فيستقي أفكاره من الانسان بتناقضاته وانسانيته. هذا الانسان يجده في كل مكان، في اللقاءات العابرة والاسفار. المهم بالنسبة إليه هو ان يتمكن من التأثير في الناس لأنه بكل بساطة يمحو الديكور والجغرافيا ويتكلم عما يتجاوز المكان والزمان الفعليين. الانسان بالنسبة إليه هو الصخرة التي يبني عليها سينماه.

في بلاد شهدت حرباً أهلية وكانت تفتقر الى الصالات لسنوات طويلة، استطاع صالح أن يصير مخرجها الرائد مذ نال جائزة لجنة التحكيم في "كانّ" عن "رجل يصرخ"، مساهماً في تبديل نظرة السلطات حيال هذا الفنّ، الذي منحه الى الآن اربعة أفلام طويلة. حين التقيته في إحدى دورات مهرجان كليرمون فيران، كان صالح يتبوأ منصب العضو في لجنة التحكيم. في هذا المهرجان بالذات، كان قد انطلق قبل سنوات، وها هو يعود كي يختار، صحبة زملاء آخرين، أفضل الأفلام القصيرة المعروضة في المهرجان. سألناه: "ما نسبة أن تخطئ في التقويم؟". الجواب: "آه، النسبة كبيرة. نخطئ لأنه علينا الاختيار، وعندما نختار، هذا يعني ان علينا مسؤولية. نحاول جاهدين تفادي الخطأ، لأن مهمة المُحكِّم هي العثور، منذ الآن، على الناس الذين سيبرزون غداً".



أما عن تجربته كعضو في لجنة تحكيم مهرجان "كانّ" تحت رئاسة روبرت دو نيرو، فيقول صالح: "في كانّ، هناك ما يسمّى واجب التكتم على كل ما عشناه خلال فترة المهرجان. بمعنى آخر، لا يمكن أن أفصح عن تجربتي طوال 20 عاماً. لا نوقّع ورقة، لكن الادارة تشرح لنا هذا الشيء بوضوح. طبعاً، هناك مَن لا يحترم هذا القانون ويخرج عليه. لذا، تجد ان الجميع يلتزم الصمت حتى في مواضيع غير متصلة بالمسابقة، خشية الانزلاق في محظورات. ما نتداوله في "كانّ" ذو شأن اعظم. أحياناً، تجد نفسك تعطي رأياً في عمل مخرج كان يشكل حلماً بالنسبة اليك. العلاقة هناك بين الفعل وردّه تفاعلية وسريعة، وهذا ما لا نجده في كليرمون (...). في النهاية، سعدنا في "كانّ" عندما سمعنا ناقداً كبيراً بأهمية ميشال سيمان يقول إن خياراتنا للجوائز كانت الأفضل منذ عشر سنين".

البحر والصحراء
أخبرني صالح انه منذ فترة، وتحديداً منذ "كانّ" 2011، يعوَّم بعروض للانضمام الى لجان تحكيم، ويتعامل معها بجدية. ففي هذه المهرجانات، يُكتشف سينمائيون جدد وينبغي الالتفات اليهم. هناك افلام غير مكتملة وناقصة أحياناً، لكن الأهم أن يشعر مخرج مثله، عند هؤلاء، برغبة في قول شيء ما. أحياناً، كان هذا يعيده عقداً أو عقدين الى الخلف، وهو يشاهد أفلام الشباب، علماً انه في أيامه كان هناك "هؤلاء المجانين الذين تتحدث عنهم". كان صالح انذاك في شبابه من النوع المتحفظ. هادئ ومتواضع.

 في أول مقابلة لي معه، قبل نحو 13 عاماً، قال لي انه يأتي من بلد ليس فيه بحرٌ. هذا الانغلاق المكاني بتنا نستشعره بسهولة في أفلامه، على رغم المساحات الشاسعة. يردف صالح قائلاً: "هذا صحيح. حتى ما هو لا نهائي يمكن أن يتحول سجناً. الصحراء قاسية. البحر حياة وحرية. خلف البحار ثمة مجهولٌ يخال لك انه الأمل وتعتقد ان ثمة أراضي أخرى غير مكتشفة وراء هذا الازرق الكبير. قسوة الصحراء متأتية من كوننا لا نمارس عليها عدواناً، في حين نسمح لأنفسنا بالتهجم على البحر، للسيطرة على ثرواته الطبيعية. في الصحراء لا نستطيع ان نحلم قطّ بأن نجد فيها ما نأكله. هناك طبعاً مجال، لكنه مجال يحصرك".

بين التحكيم في "كانّ" والجائزة التي نالها في المهرجان نفسه قبلها بعام، يفضل صالح التحكيم ويعتبره تكريساً له: "عندما تُسند لك مهام كالتحكيم، فهذا يعني أن نظرتك وشخصك يهمّان الآخرين. هذا ما أدهشني. أعتقد ان لا مقارنة ممكنة بين التكريمين. فالتحكيم اعترافٌ أهمّ بي. أن يُختار فيلمك في مسابقة كانّ، فهذه مغامرة قد تنتهي مع نهاية المهرجان، لكن أن يُعتمد عليك من ضمن آخرين لتقويم الأفلام، فهذا يعني ان ثمة مَن يضع فيك ثقة كبيرة".

لا يُمكن لقاء صالح من دون التحدث عن أوضاع تشاد، لا سيما المتعلقة بالسينما. في بداية الألفية الثالثة، كان تشاد يعاني مشكلة حقيقية: غياب الصالات التجارية. اليوم يزفّ صالح أخباراً سارة. ويبدو أن الأشياء تغيرت الى الأفضل، وحتى هو متفاجئ لأنه لم يكن ليتخيل أن التطور سيكون على هذا النحو. لكن يبدو ان جائزته في "كانّ" اثارت الاعتزاز القومي. احتفاء الناس بالجائزة شجع على فتح صالة سينمائية كان المواطنون في حاجة اليها منذ زمن طويل. استثمرت الحكومة ما يعادل مليون وثمانمئة ألف يورو، فبات لهم منذ تاريخ 8 كانون الثاني 2011، صالة جميلة، وعند زيارته الاخيرة لتشاد تسنى له أن يشاهد في هذه الصالة "مهمة مستحيلة 4"، تزامناً مع عرضه في باريس. لكن، في طبيعة الحال، صالة واحدة لـ12 مليون مواطن ليست كافية، انما هذه بداية جيدة. هناك مشروع لترميم الصالات الشعبية القديمة. وسيكون هناك معهد للسينما يبدأ فيه التعليم في الشهر الرابع. رئيس الجمهورية قال لصالح إنه من الجيد أن يكون هناك سينمائيون شباب. بعد الجائزة في "كانّ"، كان يريد للتجربة أن تتكرر، فدعم مشروع تمويل معهد للسينما. حصل أيضاً شيء خارج على المألوف: اقرار قانون لفرض حصة ضريبية معينة بهدف استثمارها لاحقاً في الانتاج السمعي ــ البصري. "أستطيع أن أؤكد لك ان السلطات في تشاد بدأت تؤمن بالسينما"، يقول صالح وكله ايمان بأن غداً مشرقاً في انتظار التشاد. ولعل ما يشجع صالح على هذا التفاؤل وهذه الحماسة، هو الاقبال الجيد الذي ناله فيلمه "رجلٌ يصرخ" خلال عرضه في تشاد. في المقابل، وعلى ذمة الراوي، هناك رغبة في تشاد في عدم العودة الى زمن الحرب، هناك انكار لهذا الموضوع من انصار سياسة النعامة، ما جعل المخرج يخوض نقاشات طويلة مراراً لاقناعهم بضرورة التكلم عن التاريخ.

ثورات وسينيفيلية
ويقرّ صالح بأن الأزمات المتلاطمة على عالمنا الحالي، سواء الاقتصادية منها أو السياسية، تلهمه. كونه يعيش في أوروبا فهو يتلمس يومياً هذا الاحباط الجماعي الذي ترتهن اليه مجتمعات باتت سوق العمل بالنسبة اليها القيمة الوحيدة. ويروي انه عندما يذهب الى أميركا اللاتينية أو افريقيا مثلاً، يشعر بأنه لا يعيش على كوكب واحد. يردف قائلاً: "في أوروبا لديَّ شعور بأن السماء ستهبط على رؤوسنا، ومن فرط ما بات الحديث عن هذه الأشياء مكرراً، صار الأمر كأنه افتراضي. الناس في أوروبا باتوا عبيداً للوظيفة. هذا ما لم يفهموه. كل شيء مركز على هذه الوظيفة، حدّ انه اذا انتزعت منهم الوظيفة، انتزعت منهم الحياة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها