الأربعاء 2014/11/19

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

ماذا يعني أن تكون مبدعاً في القاهرة؟.. نسألُ متورّطين

الأربعاء 2014/11/19
increase حجم الخط decrease


ربما يمتد الحديث، ساعات طويلة، عن تلك المدينة الضخمة. ساعات مليئة بالأحلام والإحباطات، الغضب والإنتماء، الشكوى والشكر. وسط كل ما تمور به القاهرة وما تكبته في لاوعيها، سألنا أربعة مبدعين عما يعنيه عيشهم في هذه مدينة.


تقول المطربة فيروز كراوية، التي جاءت من بورسعيد إلى القاهرة كطالبة ثم طبيبة وبعدها مطربة، أنها كبرت في كنف القاهرة، لأنه "لا مجال للفن إلا فيها، وهي ذاتها التي تطفىء المواهب أو تشعلها، تبنيها أو تدمرها". وتحكي فيروز عن نازحين من الأقاليم بفن طازج، ليخسروه في مقاهي وسط البلد، وعن الذين لا يسمحون لتراب القاهرة بأن يرتاح على أجسادهم. وتتكلم عن علاقتها بالقاهرة كمطربة معتبرةً أنها "هي التي تعلمنا، وهي التي تفسد ممارستنا للفن، تؤخرنا عن المواعيد، وتمنعنا من الإلتزام"... وكمواطنين "تتركنا بنصف عقل، نصف علم، نصف تركيز"، لتخرج بنتيجة أن "هكذا أصبحت محاولتنا فى الفن؛ محاولة للإتزان، أو فقدان للإتزان يحاول أن يحافظ على إيقاعه".

أما مينا نصر، الذي يعمل كمصمم إعلانات إلى جانب كونه فناناً تشكيلياً، فيقول أن معنى العَيش في مدينة القاهرة هو أن تكون في مدينة كلها ضوضاء وتلوث، مضيئة ومظلمة في الوقت نفسه، تدب فيها الحركة 24 ساعة ولا تنام، "وتشعر فيها بضغوط من كل أطرافها ولا تجد فيها مكاناً يجعلك تصفو مع ذاتك". ومثل فيروز، يقول "في الوقت نفسه، هي ملهمة ومدمرة للطاقات".. وأيضاً "لاتجد فيها مكاناً لك"، رغم أنه يراها "مدينة ليس لها حدود؛ فهي تكبر وتتضخم وتنقسم على ذاتها"، مدينة، كما يراها، وكل ما فيها من تراث قد دمّر، وما تبقى يتم تشويهه وطمسه، مدينة تنسى بسرعة وتعود إلى ما كانت عليه. ويحكي مينا عن علاقته الشخصية بها: "كوني عشت فيها منذ صغري، فهذا لا يجعلني أغفر لها كل ما بها من اضطرابات وفوضى"، ويرفض ما يرى أنها ما زالت تفرضه على قاطنيها من عادات وتقاليد وكأنها رقيب يراقب ويحاسب، من دون أن تتم محاسبتها من أحد، بحسب قوله. أما عن علاقته بالقاهرة كفنان تشكيلي فيقول: "مدينة القاهرة فيها أنشطة فنية كثيرة، ولعلها كانت أكثر زخماً قبل ثلاث سنوات من الآن". لكنها، يضيف مينا، "كلها أنشطة خاصة، يحاول الفنانون فيها إيجاد حلول في العرض، في الشارع مثلاً أو بمساعدة مؤسسات فنيّة مستقلة" (تتناقص الآن بشكل مُطرد)، وهذا ما يعتبر مينا أنه يستنزف جهد الفنانين في سعيهم إلى تعريف الجمهور بأعمالهم، إذ أن الفن في مدينة القاهرة موجود لممارسيه فقط، وهناك فاصل كبير بين الفنانين وعموم سكانها، ويكاد يكون فصلاً تاماً.

تبدأ الروائية إيمان عبد الرحيم، والتي تعمل أيضاً كمديرة تخطيط، كلامها بـ"القاهرة تقتل! معروفة!". بالنسبة إلى إيمان، القاهرة "مدينة الأبيض والأسود، وكل الألوان فيها هي درجات عدة من اللون الرمادي". فحين تفكر إيمان في القاهرة، فإن أول ما يخطر لها هو الغبار "غبار رمادي اللون يكسو كل شيء، حتى البشر". ورغم قبولها الازدحام وقضاء نصف عمرها في الشوارع المزدحمة، على حد تعبيرها، فإنها لا تتحمل أن ترى فقط "كتلاً خرسانية فوضوية يكسوها الرمادي، تدعوني دوماً للخوف والاكتئاب". لكنها، مع ذلك لا تكره القاهرة، "على الأرجح"، تقول "لأنها تشبهني في فوضويتها، وسهرها، وازدحامها، وحتى قسوتها وكآبتها". في علاقتها بالمدينة، ككاتبة، تقول إيمان أن الكتابة لا تحتاج إلى مكان محدد أو ظروف محددة، لذا فالشيء الوحيد التي تقدمه القاهرة لها ككاتبة هي أنها مدينة ساهرة، لاتنام. وهو ما يناسبها لأنها تعاني الأرق. فالقاهرة "تقدم لي الوَنس 24 ساعة، ما يساعدني في حياتي الفنية، مدن أخرى كثيرة في العالم، تموت الحياة فيها بعد الساعة الثامنة، أما القاهرة فليلها حيّ أكثر من نهارها". وعن تجربتها ككاتبة في القاهرة، وهي التي تعرضت لهجوم على روايتها الأولى "الحجرات" بسبب جرأة لغتها وهي امرأة، تقول إنها لم تشعر بأي تفرقة أو تمييز، لكن لعل التحدي الذي تواجهه "في مجال السيناريوهات الكوميدية للتلفزيون، لأن الفكرة السائدة أن النساء لا يعرفن صناعة القفشات والكوميديا، فهذا المجال تقريباً حكر على الذكور".

المخرج عمرو وشاحي، صانع فيلم قصير بعنوان "قاهرة" يبرز فيه الوجه الكئيب واللامجدي والملوث للمدينة، ويستعرض تدوير القهر والعنف والفشل فيها، يعمل أيضاً في مهن سينمائيّة مختلفة، كمونتير ومصوّر وممثل حتى يضمن مصدراً للدخل. يقول عمرو عن القاهرة إنها مدينة مسوَّرة من الجهات كافة، ورغم ذلك، فهي دائمة التمدد. ويضيف أن ذِكر القاهرة يعني له التلوث: "تلوث بصري، سمعي، بيئي، أخلاقي، حسي، سيكولوجي.. إلخ". وكما فيروز ومينا، يرى عمرو أن القاهرة "مدينة تقهر قاطنيها. مدينة تولد فيها الأحلام وتموت. أتصور أن لها إرادة وشخصية قادرة على فعل تلك الأشياء وأكثر. وهي الآن تحب الفساد وتنمّيه. هي مدينة ملهمة ومحطمة للآمال في الوقت نفسه". ويشرح ذلك بأن "هذه المدينة التي تمنحك الخيال تسلب واقعك. فأنت لا تستطيع القيام بأي شيء فيها بسهولة. ناهيك عن التصوير! فصناعة الأفلام بشكل عام، عمل مكلف، فمن أين لك أن تأتي بالمال والطاقة والمرونة والتكيف لكي تحقق إحدى الخيالات التي تلهمك إياها المدينة؟!".

لا تنتج الفنون، أو الإبداع عموماً، في فراغ، بل تتشكل بحسب الحيز المكاني الذي تولد وتنمو وتُطرح وتُتداول فيه. فسؤال الإبداع يَطرح بالضرورة سؤال المدينة. والأفق المتجاوز الذي يسعى إليه الإبداع دوماً، رهن بما تفرضه المدينة على قاطنيها كمواطنين ومبدعين.
 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها