الإثنين 2014/09/01

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

15 عاماً على رحيل البردوني.. شاعر اليمن الموؤد

15 عاماً على رحيل البردوني.. شاعر اليمن الموؤد
ما زال غامضاً مصير الأعمال الأخيرة لعبد الله البردوني.. خصم علي عبد الله صالح
increase حجم الخط decrease
تصادف هذه الأيام الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشاعر عبد الله البردوني، وما زال غامضاً مصير أعماله الأخيرة المختفية. لم تخرج إلى الضوء منذ وفاته في 30 آب/أغسطس العام 1999. لكن لمصلحة مَن هذا التغييب المتعمد الذي يتعرض له إرث البردوني؟ وهل يعاقب على مواقفه السياسية والفكرية التي كان معروفاً بها ضد نظام علي عبد الله صالح؟ ما نعرفه منذ سنوات بشكل مؤكد، أن للبردوني كتاباً سياسياً، وكتاباً فكرياً، وكتاباً نقدياً، وسيرة ذاتية، ورواية، وثلاثة دواوين شعرية، رهن المجهول حتى اللحظة. بالتأكيد من غير المعقول أن تصبح مؤلفات البردوني التي كان أعدها للطباعة قبل وفاته - والأخرى التي كانت تحت الطبع أيضاً- رهن الأمزجة التي لا تحترم نفسها. ثم هل يعقل فعلاً أن تمارس ثقافة إقصاء المختلف واللاتسامح والكراهية ضد البردوني على هذا النحو الممنهج؟

تحديداً هل ثمة فرمان بوليسي خفي صدر بحق مؤلفات الأعمى الأكثر استبصاراً في التاريخ الثقافي اليمني، والذي اعتبر من عباقرة شعراء الإنسانية القلائل لينالها هذا المصير المجحف؟ كان البردوني "أسطورة" في الشعر العربي، إذ كان من آخر الحراس الكبار للشعر الكلاسيكي بامتياز مشهود، وبالنسبة إلى اليمنيين تعدّ آثاره الشعرية والفكرية خالدة وذات إجماع نخبوي وشعبي. وحتى اكبر المختلفين مع البردوني يجمع على تميز شعريته بالنضج والتوهج والحماسة الخلاقة، كما بالتقنية النوعية والفرادة والأصالة الفنيتين. لقد حمل البردوني على عاتقه منذ أربعينيات القرن الماضي، قضايا العدالة والتحرر والتقدم. كان مع توهج الذاكرة الجمعية بكل شغف وحبور وإصرار، وكان أكثر المثقفين اليمنيين في العصر الحديث له قدرة خصوصية على خلق وعي وطني.

بمعنى آخر كان لا يعتز بشيء قدر اعتزازه باليمن الحضارية التي تم تجريفها ومحوها. ثم انه نبش روح اليمن التاريخية مستوعباً أهمية ترميم الهوية الوطنية لليمنيين. عاش البردوني عصامياً وساخراً وحزيناً وصاحب موقف ورؤيا خارج مواقف الجماعات المغلقة والسلطات المأزومة والمخادعة. رحل البردوني وقد خلد اسمه كواحد من أعظم شعراء العربية على الإطلاق. تعرض لطفولة قاسية أصابته بعمى الجدري مبكراً، لكنه تغلب على كل شيء وطور ثقافته بحيوية خلابة في عز الزمن الصعب. حصل على إجازة من دار العلوم في العلوم الشرعية والتفوق اللغوي. ثم عمل مدرسًا للأدب العربي، كما عمل محامياً وقاضياً وشغل وظائف عديدة ذات طابع إعلامي ثقافي. اعتقل من قبل نظام الإمام أحمد يحيى حميد الدين، وكان من أهم المحرضين لاندلاع الثورة اليمنية الأولى أيلول/سبتمبر 1962، واستمر بقيم جمهورية حد النخاع بالضد من كل القيم الملكية التي استمرت تدأب في حضورها الاجتماعي والثقافي والسياسي. ثم في العام 1970 كان من أوائل الساعين لتكوين وتأسيس اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين الموحد قبل الوحدة اليمنية، وانتخب رئيساً للاتحاد في المؤتمر الأول له بإجماع. كان بارعاً في إعادة الاعتبار لمضمون الشعر كما لفكرتي الإنسان والوطن، وبشكل نوعي كان ساند الوحدة اليمنية رغم صراعات النظامين في الشمال والجنوب قبل الوحدة. في العام 1982 كرّمته الأمم المتحدة بعملة فضية عليها صورته كمعوق تجاوز العجز. كذلك تألق البردوني، وكان رائياً متنبئاً لا يشابه، كان هو الواحد الذي لا يتكرر، تميز باشتقاقاته اللغوية، وعنصري الدراما والحوار في الشعر. بل لعل البردوني أول وأبرع من قدم-على سبيل المثال- بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وأمل دنقل وانسي الحاج للقارئ اليمني.

كان مستوعباً لأبعاد ومضامين التجديد في الشعر العربي وغير متعصب لشكل شعري وحيد. كان ناقداً حيوياً وضليعاً في القديم والجديد في آن، كما في النظريات العربية والغربية معاً. زاوج بين الشكل القديم والمضامين الحديثة على نحو مبهر، وكان قارئاً موسوعياً يزخر بالإدهاش، إذ حفظ عن ظهر قلب كل ما اطلع عليه. كذلك كان قائداً فذاً لمعارك ثقافية وفكرية وسياسية عديدة ساهمت في تحرير الذات اليمنية. وفي بلد استنزفته الصراعات كاليمن كان صوت البردوني بوصلة للوطنية اليمنية تماماً. المؤرخ الفذ، والتاريخاني صاحب الإجماع الذي اخلص على مدى أكثر من نصف قرن لقضايا المواطنة والدمقرطة والتحديث. وهكذا: لا تذكر اليمن إلا ويذكر معها البردوني الذي ترك رحيله فراغاً شاسعاً في ساحتي الشعر والفكر اليمنيين نال جوائز عربية عديدة عن استحقاق ولم ينتظرها أبداً، ظل منجزه الإبداعي محل اهتمام دراسات أكاديمية مرموقة نال أصحابها الماجستير والدكتوراة من جامعات يمنية وعربية. كانت تحليلاته عن اليمن أشد عمقاً ونفاذاً. في الواقع يتفاقم القلق في أوساط محبي البردوني من أن يتم تحريف كتبه ومؤلفاته المختفية بهدف تشويه مواقفه مثلاً.

والحاصل، أننا في ظل وضع مثخن بالاستلاب واللامبالاة والتواطؤ وعدم المسؤولية. ذلك أن أرملته وبقية المقربين له في الأسرة لم يتحدثوا بشيء عن ارث الراحل، والأغرب هو عدم انشغال أربعة من وزراء الثقافة، منذ رحيله، بهذه القضية بالغة الأهمية. من المعروف عن الرئيس السابق على عبدالله صالح أنه كان يتعامل مع البردوني كخصم. وفي السياق، لطالما تعرض البردوني للإجحاف من قبل عصابات القبح وميليشيا الثقافة على السواء. لكنه صمد أمام مختلف الأهوال والإساءات التي حاصرته. رغم ذلك فإن ما تتعرض له مؤلفاته المختفية هو بمثابة الوأد الذي لا يطاق، بمعنى آخر يعد الإخفاء القسري الذي يتعرض له البردوني جريمة مروعة بحقه، كما بحق الذاكرة الثقافية اليمنية أيضاً.

على أن البردوني كان وسيظل أكثر حضوراً وتألقاً رغم أنف كل من يدأبون على تغييبه، لا شك. والحاصل أن كتبه ودواوينه السابقة المعروفة هي: 12 ديواناً و8 مؤلفات فكرية ونقدية مهمة حول الشعر اليمني وفنون الأدب الشعبي وقضايا ثقافية واجتماعية وسياسية يمنية مختلفة، أصدرها ما بين العامين 1961 و1994، قد اختفت غالبيتها من الأسواق غالباً، في حين أن منها ما نجده بسعر غال وبشكل نادر، والسبب عدم صدور طبعات شعبية جديدة عنها من بعد غياب البردوني الذي عرف بأنه كان يدعم مؤلفاته ويطبع منها الكثير ليحصل عليها الجمهور بسهولة تامة وبشكل رخيص جداً. بإختصار: يشعر عشاق البردوني بالعار كله، إزاء ما يتعرض له من النكران وهو الفرد الذي كان بعطائه الذاتي يتفوق على جهود المؤسسة، المؤسسة التي اخلصت لحملة المباخر، أو المداهنين الذين يرضى عنهم "الزعيم" للأسف، فضلاً عن أن مؤلفاته الأخيرة التي أعلن عن انجازه لها قبل وفاته، ما زالت في مصير ملتبس وغير مفهوم حتى اللحظة، ولم تر النور بعد. 
increase حجم الخط decrease