الثلاثاء 2014/07/22

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

حسن جوني: لم تهرم اللوحة.. لكن لا سوق لها

الثلاثاء 2014/07/22
increase حجم الخط decrease

زيارة الفنان التشكيلي اللبناني حسن الجوني في محترفه، بمنطقة المنارة، زيارة لحقول ألوان المناظر، نتيجة الحفر المستمرّ على موضوعين أثيرين لدى الفنان، بيروت والجنوب اللبناني. خريج أكاديمية سان فرناندو، أدمن رسم البيئتين، مختصرتين بقدرة نادرة. البيت والمقهى البيروتي العتيقين. وسهول الجنوب، المنهوشة بإرادة الحياة. عشرات اللوحات المستوفة على قياساتها الضخمة، بعيدة عن الأحجيات والتجريد المغبوط من الكثير من الفنانين التشكليين اللبنانيين والعرب، على الرغم من استنفاد العمل على نهجه، منذ خمسينيات القرن الماضي، في بلاد المنشأ. 


لا يرسم الجوني على الورق أولاً. دائماً، في محترفه بالبناية القديمة حد التهالك، وراء القماشات المشدودة على إطاراتها، يفلح اللوحة بالألوان الزيتية. رائحة الزيت، طيبة وثقيلة. لا يحتاط الفنان لتأثيرات العمل بالألوان الزيتية على الصحة. تعل المواد بالألوان الزيتية "بيد أنها تساهم في إرضاء، صعب الإرضاء، على التعبير المشغول، بما يتعلق دائماً بقوة الطباع على اللوحة. الأحماض بالألوان كالذخائر بالأسلحة. لا سلاح بدون ذخيرة". هذا جزء مما قاله الفنان حسن الجوني في حواره مع جريدة "المدن". 


مئات اللوحات تنطوي على نفسها بدعة، لا تشبه حفر الكلام  بيد الفنان، على باب المحترف. "اختصر زيارتك، لأن عمراً لا يكفي لكتابة لوحة". مئات اللوحات، تشدّ، بقدرة نادرة، وهي تكرر رسم المشهد الجنوبي والبيوت البيروتية القديمة، المائلة باللوحات، مذ راحت المدينة تشهد العنف المتصاعد في جولات الحرب الأهلية الأخيرة. "بيروت فضاء خاص لا يمكن ولوجه، بالألغاز والتهويمات وبالشهادات المزورة. ولدت في بيروت. عشت في بيروت. انعكس ذلك بشكل أساسي على لوحتي، ذات الهيكل البنائي الواضح، لمدينة ملموحة ومحسوسة ومكثفة باللوحة".


المدينة ليست محلاة في لوحة حسن جوني. "لم أتوقع ذلك. وجدته في اللوحة، كما أجد وجهي كل صباح في المرآة. المدينة مستبطنة في اللوحة، لأنها لا تتجسّد كاملة فيها. صحيح أن فيها من الحنين إلى المدينة القديمة الكثير، غير أن منطق العلاقة بين الموضوع والمادة المرئية، لا تدع الحنين يشوش على قوى التعبير". 


بيروت في لوحة حسن الجوني، لا يشوبها الجماد، لأن عنوانها الأكبر روحها الإيقاعية. التبصر باللوحة يقود إلى القراءة هذه. في اللوحة إيقاعات كثيرة. ثمة ما هو حميم على هذا الصعيد. لأن ما يرسمه الفنان حسن الجوني من بيروت، جزر بيروت الساحرة والمسحورة في آن. لذا، تحضر في اللوحة، بخيالاتها الأنثوية المتطاولة. بيروت أنثى العالم باللوحة. ليس هذا شأن مسقط الرأس. ذلك أن الجوني، يرسم السهول على درج موسيقي أو مدرّج موسيقي، هجّ من سوناتا حزينة. الشغف بالموسيقى واضح باللوحة. "يسم اللوحة شغف بالموسيقى والقراءات الشعرية. أجمع بين الرسم والشعر والموسيقى في لوحاتي. ترتبط الفنون هذه بلوحتي. هذا ما دأب عليه مبدعو لوحة "التجريد الموسيقي"، الفاصلة بين لغات شكلية مختلفة والجامعة بينها بصلات عميقة. بيد أن لوحتي لا تحسب على التجريد الموسيقي. تجمع بين ما هو مدرك وما هو مختبر بالحواس. اللوحة نتاج الحوار الدائم بين الأشكال والإشارات والبقع والخطوط وكتل الضوء والظل والحزوز والتلوين والدفق والتكثيف والتجسد. ليست هذه حكاية عجيبة من حكايات شهرزاد. إنه البحث الدائم عن مناطق الجمال. والأخير لا يذبل". 


جنون مشبوب بالعاطفة من خلال الكائنات المنعكسة الحضور باللوحة. لوحة دوار، وهي تقنص اللحظات الاجتماعية في حياة الناس. بالباص، على شاطئ البحر مع الصيادين، بائع الصحف، بائع العصافير، مشاهد تسيل وراءها الحياة المدموغة بحب الآخر ونار احتراقه. رحلة روح بطرق مستقيمة. بالتعبيرية، صوت الصمت الأعمق. للصمت صوت أقوى من صوت الصوت. مشاهد متكرّرة من ميراث لا ينضب. حكواتي المقاهي الشعبية، لا يزال حياً في لوحات حسن الجوني. المقهى الشعبي، لا يزال حياً في لوحته. البحر الأبيض المتوسط، علامة العلاقة بالأرض العاطفية، لا أرض الولادة. تنطوي أعمال الجوني، بهذا المعنى على أشياء تبدو معروفة، غير أنها تتحول بالتكرار ذاته، لتختلف بسحر رسم المشاهد التقليدية بالطرق التقليدية، بلوحة لا يزال حضورها يتجدد حين تحافظ على أصالة الفنان الجذرية فيها.


حسن الجوني فنان ورشة دائمة لا فنان مرحلة هي مرحلة ما بعد الدراسة. معلم في اللوحة. يقتفي المشاهد أو المقتني، لوحته، بدون تتبع أثر. لوحة مفعمة بالغنائية الموحية. تلك لوحة حسن الجوني. لوحة "أرض موعودة، مفقودة. أشهد من خلال لوحتي على زمني وعلى تغير الأزمنة. لم تشخ اللوحة، غير أن لا سوق لها اليوم. لا علاقة لذلك بالسوية الفنية، لأن اللوحة اللبنانية ذات سوية غير معلقة. السؤال، سؤال المستقبل. ذلك أن اللوحة تعيش من نفسها على نفسها. إن مستقبل اللوحة مرهون، في لبنان، بمدى تحمل الفنان لمسؤوليته. لا يعرف مقدارها ولا حساسيتها سواه. عسى أن تصبح الحرية، منطلقاً حقيقياً للإبداع، بعيداً من الهاوية المستترة خلف ظلال الفوضى". 


 "إننا كائنات متجسدة تقدر، بلحمها، أن تلتقي العالم. عالم يضعها بالامتحان باستمرار. إن ذلك لا يلزم أحداً بالحمق ولا بعدم الأصالة. كل فنان يطمح بالوصول إلى قمة مبتغاه وبالطريقة، الأقرب إلى ذاته. وإذ تقود كل الدروب إلى روما على ما المثل الشعبي، فهذا ليس معناه أن درب الذرى الجمالية مباحة ومستباحة. الأمر يستوجب، المزيد من الأبحاث والمراجعات للمخزون الثقافي، بهدف وضع اللوحة اللبنانية في المسار العالمي الواعي". لا بيت شعر هنا ولا قافية. يكمن السر بعدم وجود اللوحة على القماش فقط، وهي تبحث بأفعال التوليد والإبداع بالزمن، بين صوتها ومعناها. 

 

increase حجم الخط decrease