الإثنين 2014/09/01

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

ولمّا صاهرنا فرنسا...

الإثنين 2014/09/01
increase حجم الخط decrease
                                            
حين راحت عمّتي تقول "عندنا"، وهي تعني فرنسا، لم نجد في الأمر ما يستدعي الإستهجان. ليس فقط بسبب إقامتها الطويلة في هذا البلد، إلى جانب ابنتها الوحيدة، وغيابها عن الوطن الذي داهمته الحروب بحيث كانت عمّتي تؤجّل زيارتها المأمولة من سنة إلى أخرى بانتظار هدوء الوضع، بل لما يشبه الإجماع الضمني على أنّها كانت، وقبل استقرارها في فرنسا، فرنسيّة قليلا، على نحو ما...

فعمّتي التي نحبّها كثيراً وجميعاً لخفّة دمها وظرفها وتلقائيّتها لم تكن من الستّات المتفرنسات المتصنّعات، ولا هي تشبههنّ في شيء. لكنّها، ولأنّها دون كافّة بنات عائلتنا الريفيّة كانت الوحيدة، أو الأولى، التي تزوّجت ببيروتي، من "الحضر" أكاد أقول. وزوجها الذي أسكنها رأس بيروت، وتوفي شابا في حادثة موتوسيكل، كان مدينياً جدا بالنسبة إلينا، في صورته ذات الإطار الأسود، وهو في وسامته وأناقته أقرب إلى ممثلي السينما الأجانب، وفي حادثة موته على آلة لم يكن أحد منّا يعرف مالكا لمثلها... حتّى لهجة عمّتي شبه البيروتيّة كانت غريبة على جيلها ممن نزحوا إلى بيروت وجوارها، ولم يتخلّصوا من تدوير الألف والفتحة وتحويلها إلى واو. والأصح إلى الـ"الأو" مرادفها الفرنسي.. كأن تُلفظ كلمة "باب" على نحو "بوب". بل أنّها، حين كانت تتكلّم مع أخت زوجها، الراهبة، كانت ترطن بالفرنسيّة. وإزاء سخرية أبي كانت أمّي تقول بنرفزة إن الناس تتقدّم وتتطوّر، وأن ليس في الأمر ما يستدعي السخرية...

لا أحد يعلم من أين تعلّمت عمّتي الفرنسية. فزواجها– إن افترضنا أنّه كان الظرف المناسب -  لم يدم طويلاً، والمدّة التي عملت خلالها سكرتيرة بإمكانيّات لا بدّ محدودة مدّة قصيرة، رغم عودتها إلى الوظيفة بعد ترمّلها. أمّي كانت تقول إنّها الفطنة والإرادة. لكنّ أمّي تعتبر أن أيّ نجاح مهما كان هو نتيجة الفطنة والإرادة. وأذكر أنّي مرّة سألت عمّتي عن "مكان" تعلّمها الفرنسيّة فأجابت: "يا قلبي حدا بيعرف؟!"

إلاّ أنّ العائلة دخلت مع مارسيل في علاقة نسب مع فرنسا. فمارسيل، ابنة عمّتي الوحيدة، تزوّجت ضابطاً في البحريّة الفرنسية، كان في زيارة لبيروت على متن الباخرة "كولبير". التقته في مسبح "لونغ بيتش" وعلقا بالغرام. لم يستغرب أحد منّا هذا الغرام. فمارسيل كانت تستمع دائماً للأغاني الفرنسيّة، وتتكلّم مع عمّتها الراهبة بالفرنسيّة، وتقرأ المجلاّت وال بي دي- المجلاّت المصوّرة- بالفرنسيّة، ولا تتفرّج إلاّ على القناة التاسعة. و... كانت تسبح بالبيكيني، وهذا ما كان ينرفز أبي، فيؤنّب أخته، أمّها، كثيراً...

ولمّا كان أبي خالها بمثابة والدها المتوفّي، راحت مارسيل تبكي لأنّه رفض أن تسافر إلى "شامونيكس" للتعرّف إلى أهل الفرنساوي وعائلته. صار أبي الذي كان يحبّ ابنة أخته ربما أكثر مني، صار يقول: "عال والله. كلّما تعرّفنا على أقرع  بحّار من شي بحريّة زعران نسافر إليه؟! ما في سفر". عمّتي التي كانت ساكتة راحت تقول بصوت منخفض "ظابط. ظابط يا خيي" علّ ذلك التفصيل المهمّ يضفي قيمة ما على الموضوع. لكن مارسيل ظلّت تبكي وتقول "يا خالو بدو يتجوّزني". إلى أن تدخّلت أمّي، قبل أن يبكي أبي بسبب بكاء "البنت" كما كان يسمّيها. قالت أمّي بحسم لا يقبل المراجعة: "طيّب. أمّها تسافر معها". وهكذا كان. وجاء العريس، "جاكي"، بعدها إلى لبنان. وبكى أبي كثيرا وهو يودّع "البنت" وأمّها على المطار...

لهذا لم يلاحظ أحد أنّ شيئا قد يبدو غريباً في تكرار عمّتي لتعبير "عندنا" وهي تعني فرنسا. في زيارتها الأولى للبنان كانت تقارن كلّ شيء وأيّ شيء بـ "أمّا عندنا ف..." ولمّا فهمت، لا أدري كيف، أنّ لديّ في الجامعة أصدقاء "حمر" كما كانت تقول، صارت تغمزني مردّدة كالسرّ بيننا وبصوت منخفض أنّها هي أيضا وبشرح وتحليل وتفهيم من جاكي صهرها، صارت تنتخب لـ"الحمر" إذ "عندنا حزب أحمر، أعني الوردة الحمراء، تفهمين، حزب قوي جدا"...

حين زرت مؤخّراً عمّتي في بيت ابنتها في منطقة الـ"فار" جنوبي فرنسا اصطحبتُ معي ابنتي ديمة التي تعرف حبّي الشديد لعمّتي. كنت متشوّقة جداً لأن أرى كيف ستسير الأمور بين ابنتي وعمّتي... وكيف ستحبّ واحدتهما الأخرى و... لكنّ الصهر – الذي كان أحمر- لم يترك لنا، أنا وعمّتي وابنتي وزوجته مارسيل دقيقة واحدة نتكلّم فيها على حدة. حاولنا كثيراً. مستحيل. لم "يفكّ" عنا.

ذلك أنّه كان يريدنا أن نفهم "الحقيقة" في بلاد صرنا من مواطنيها. وأن نتحوّل فوراً إلى الإلتزام بقضايا اليمين المتطرّف وننتخب لحزب مارين لوبن. فوراً، إذ أنّ اللحظة التاريخيّة باتت حرجة... حضارياً.

في القطار راحت ديمة تقول: "حرام أن نترك عمّتك اللذيذة مع هذا الغول. لو أنّها قادردة على البعاد عن ابنتها لأقنعناها بالمجيء والإقامة معنا... عندنا، بعيداً عن هذا الفرنساوي الـ...".
كانت ديمة مغتاظة جداً...
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب