الثلاثاء 2014/09/30

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

محمد جلبي وخالد زيادة في "جنة النساء والكافرين"

الثلاثاء 2014/09/30
increase حجم الخط decrease

البعثة الديبلوماسية العثمانية الأولى الى باريس، أو "سفارة نامة فرنسا" برئاسة محمد جلبي في العام 1720، وفي معيّته حوالي 50 شخصا، بينهم إمام لإقامة الفرائض الدينية، وابن السفير برتبة قنصل أو "ديوان أفندي"، وبعض الأغاوات (ضباط العسكر) - استغرقت رحلتها في البحر المتوسط من أزمير العثمانية الى مرسيليا الفرنسية 55 يوماً. لكن البعثة لم تصل الى باريس إلا بعد ثلاثة أشهر إضافية في رحلة برية شاقة. فالساحل الفرنسي كان نهباً لتفشي وباء الطاعون، مما استلزم مكوث البعثة مدة في الكرنتينا، قبل سيرها المضني في البر الفرنسي الموحل في فصل الشتاء، لبلوغ باريس التي مكثت فيها 5 أشهر، عادت بعدها الى اسطنبول.

دوّن السفير محمد جلبي أفندي يوميات رحلته ووقائعها في أول نص عثماني رسمي سلطاني، مسجلاً مشاهداته في الديار الفرنسية، واصفاً عمرانها والحياة اليومية فيها، خصوصاً في البلاط الملكي للويس الخامس عشر، حينما كان لا يزال في الحادية عشرة من عمره، ويقوم عمه دوق أورليان وصيّاً على عرشه. استغرق السفير في وصف عمارة قصور طبقة النبلاء الفرنسية، وطبيعة حياة هذه الطبقة، شعائرها وحفلاتها واستقبالاتها الملكية. وقد نُشرت مدونات هذه الرحلة، لاحقاً، في اللغة التركية، ثم في الفرنسية، قبل أن يقوم الدكتور خالد زيادة، الباحث في الشؤون العثمانية وسفير لبنان الحالي في القاهرة، بترجمتها الى العربية في عنوان "جنة النساء والكافرين" مذيّلة بعنوان فرعي "سفارة نامة فرنسا". كما أنه وضع لترجمته مقدمة مطولة، لتنشرها "دار رؤية" المصرية.

صاحب فكرة البعثة أو السفارة هو الوزير أو الصدر الأعظم العثماني ابراهيم باشا داماد، الميّال الى السلم والانفتاح على أوروبا، بعد هزائم السلطنة المتلاحقة تحت أسوار فيينا، عاصمة الأمبراطورية النمساوية -الهنغارية، وبروز القوة الروسية في مواجهتها في مطلع القرن الثامن عشر، إيذاناً بانكفاء الإمبراطورية العثمانية وتراجعها وتسميتها بـ"الرجل المريض". هذا ما دفع الصدر الأعظم الى ارسال بعثات ديبلوماسية الى فيينا (1719) وباريس (1720) وموسكو (1722) وفيينا وبولونيا مجدداً (1730)، للتعرف على مصادر القوة في أوروبا عصر النهضة والتنوير. كأن الوزير العثماني في هذا أخذ بمبدأ ابن خلدون في "العمران البشري والاجتماع الانساني": "إقتداء المغلوب بالغالب" في شؤون العمران والعمارة والتنظيم والإدارة، والعادات والتقاليد.

طوال رحلته الفرنسية وفي جميع محطاتها، يصف السفير محمد جلبي عمارة القصور وحدائقها وبرك الماء والأقنية والنوافير فيها، مبهوراً مندهشاً بكل شيء، وبما حظي به من استقبالات وما شهده من استعراضات عسكرية، وما زاره من مشاغل حرفية ومسارح، وما قام به من رحلات صيد ملكية. أكثر ما استغرق انتباهه ووصفه هو حضور النساء في الأماكن العامة حضوراً كاسحاً، فكتب أن باريس ليست أكبر من اسطنبول، إلا أن كثرة الناس في شوارعها يبديها على تلك الصورة غير الصحيحة المتأتية عن وفرة النساء في الشوارع، لأنهن "لا يطقن البقاء في منازلهن"، فيخرجن منها لممارسة "البيع والشراء في الأسواق" العامة. وفي قصور النبلاء والقصور الملكية وفي المسارح والاحتفالات، يتردد أيضا حضور النساء رافلات بأزيائهن الباهرة الباذخة. هذا ما دفع السفير، حسب تقديم خالد زيادة، الى رسم ملامح العالم الفرنسي الغريب عن عالمه العثماني في العاصمة اسطنبول. "فالفرنسي عثماني يقف رأسه: العثماني يسير والمرأة وراءه، والفرنسي تتقدمه المرأة. وإذا دخل العثماني منزلاً يخلع حذاءه، أما الفرنسي فيخلع قبعته. العثماني يحلق شعر رأسه ويرخي لحيته، فيما الفرنسي يحلق ذقنه ويرخي شعر رأسه". ويكثر السفير من وصف الصروح العمرانية والمعمارية، والتماثيل والرسوم فيها وفي الكنائس، مشيراً الى أن الملك الفرنسي وسواه من النبلاء، تجنبوا أن يقدموا له هدايا من التماثيل والصور، احتراماً منهم لعقيدته الدينية التي تحرّم التجسيد والتمثيل والتصوير. وهذا ما حمله على ذكر ما ورد في الحديث الإسلامي الشريف: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".

بناء على مدونات السفير في سفارته الفرنسية، أشرف راعي رحلته الوزير ابرهيم باشا، على تدشين "عصر التوليب أو الزنبق" العثماني، المتسم بالدعة والرخاء وبناء "قصر السعادة" السلطاني، الذي شُيّد وجُهّز على مثال قصر فونتان بلو الفرنسي. كما أن رجال الدولة العثمانية عمدوا بدورهم الى بناء قصورهم على شواطئ البوسفور، وفقاً للتصاميم الفرنسية. وعلى المثال الفرنسي شهدت اسطنبول احتفالات ليلية أضيئت فيها الشموع وأطلقت الألعاب النارية، وظهرت في أسواقها السلع المستوردة من أوروبا، خصوصاً الأثاث والأقمشة، فشاع لبس البنطلون لدى الطبقة الميسورة الإسطنبولية، التي أخذت تستدعي فنانين أوروبيين لتزيين جدران القصور بالرسوم، بدلاً من فسيفساء الموزاييك. وظهرت أيضاً رسوم وجوه الأشخاص، خلافاً للتقليد الشائع الذي يحرّم تصوير الهيئة الانسانية. فعصر التوليب العثماني هذا شهد ولادة نزعات حديثة في التعبير الدنيوي التجسيدي، بعيداً من التقاليد الإسلامية الصارمة في هذا المجال. أما فن الطباعة الذي شهده السفير في باريس، فتحمس له ابنه ورئيس ديوانه في سفارته، سعيد أفندي. لكن السلطان العثماني لم يسمح، استجابة لرفض السلطة الدينية، بادخال الطباعة الى اسطنبول إلا بعد سنوات، فعهد بذلك الى ابرهيم متفرقه، ذي الأصول المسيحية، قبل اعتناقه الإسلام ودخوله في الإدارة العثمانية.

لكن هذا كله سرعان ما انتهى بقيام سلك الانكشارية العثماني بثورة في العام 1730، اعتراضاً على حياة البذخ في القصور، فتوقفت بذلك الطباعة مع وفاة مؤسسها متفرقة في العام 1745. هذا فيما اضطر السلطان الى قطع رأس ابراهيم باشا داماد، إرضاءً للانكشارية المنتفضين، والى نفي السفير محمد جلبي الى جزيرة قبرص، حيث توفي العام 1732، بعدما كان وصف وأبدى دهشته بالعمران وتنظيم المدن والجسور والنظام العسكري وعلوم التشريح والفلك وفنون الأوبرا والموسيقى والرسم في الديار الفرنسية.

ختاماً لذلك العهد العثماني، كتب المؤرخ التركي المشهور، جودت: "ظهر في ذلك العصر (التوليب) ميل الدولة الى السير في ركاب المدنيّة، غير أنها تركت الرؤوس (العقل) وتمسكت بالأذناب. فشرعت في زخرفة البنيان من غير أن تنظر في أساسه. وبدل أن تبذل الهمة في الصناعة والفنون، انخدعت بالسفهاء واسترسلت في الإسراف، فظهرت الفتنة العظيمة".

من وجوه الفتنة التي أصابت السفير محمد جلبي في باريس، ذلك المجسم الذي شاهده للأراضي الفرنسية، وظهرت فيه "السهول الكبيرة والصغيرة، الحدائق والأماكن الجبلية، الأنهار وضواحي المدن... بحيث أن رؤية هذه الخرائط التجسيمية تعادل رؤية الأماكن التي ترمز إليها، حتى لكأنك ترى الشوارع والبيوت والكنائس والجسور على وجه الكمال، وذلك في غرفة كبيرة تحوي 125 خريطة، كل واحدة منها موضوعة على طاولة بحجم أريكة. لكن هذه الفتنة كانت في أساس النهضة والتنوير الأوروبيين الدنيويين، فيما أخذت السلطنة العثمانية تراوح في الخوف والانكفاء والتراجع حتى انهيارها في الحرب العالمية الأولى.

increase حجم الخط decrease