الثلاثاء 2014/09/16

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

إنعاش ذكرى المفقودين الأوائل

الثلاثاء 2014/09/16
إنعاش ذكرى المفقودين الأوائل
من حملة #مش_بس_صورة في فايسبوك (تصوير: داليا خميسي)
increase حجم الخط decrease
ليس من المؤكّد أنّ أم تيسير ما زالت على قيد الحياة لتدلي بمعلومات عن أبنائها الذين فُقدوا من إثنين وثلاثين عاما. لم تكن موفورة الصحة آنذاك، حين كانت تسير في التظاهرات التي قام بها من أُطلق عليهم اسم ذوي المخطوفين. تهاوت أكثر من مرّة بينهم، من قهر لكن من تعب أيضا. كانت تعمل في البيوت لتتمكن من إعالة الأولاد الذين خُطف آباؤهم. كانوا كثيرين، وفي أعمار متقاربة. ألآن صاروا رجالا، في الأربعين أو قبلها بقليل، لكن لا أعرف إن كانوا محتفظين بأشياء كانت تخصّ أهلهم. في البيت الذي جمعتهم فيه أم تيسير لا خزائن لحفظ ما تركه الغائبون. ليس إلّا تلك الصور الثلاث أو الأربع المرتفعة على الجدار. هذه ما زالت محفوظة، لا بدّ. ذاك لأنّ الصور هي أكثر ما يبقى. هناك في ما سُمّي بخيمة ذوي المخطوفين لم تكن صورة واحدة غائبة. أكثر من ألف وخمسمئة صورة جُمعت واحدة بجانب الأخرى. صور قديمة، لا بمعنى العتق بل بالمعنى الذي يدلّ على أن من فيها كانوا يعيشون في زمن مختلف عن زمننا. 

وقد كبروا الآن، أو على الأقلّ كبر مَن ما زال منهم على قيد الحياة. السيدة التي ظهرت على التلفزيون من أسبوعين كانت تتحدّث عن ولدها المخطوف وهي فاجأت مستمعيها حين قالت بأنّه بات الآن في الرابعة والخمسين. وهي، بحسب ما قالت أيضا، كانت تحتفل بعيد ميلاده كلّ عام، فتى في عمره ذاك، إذ لم يتح لها أن تراه كيف يتغيّر مع العمر. لكنها مع ذلك تستطيع أن تزوّد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بما طلبته، فكلّ شيء يخصّه باق هناك في الخزانة مرتّبا كما كان. أمّهات كثيرات احتفظن أيضا بما كان يخصّ أبناءهنّ. أوديت التي لقيت حتفها على بعد أمتار من الخيمة التي كانت تقضي فيها أكثر وقتها، كانت قد قالت أيضا بأن كلّ شيء من أغراض ابنها باق مثلما كان. ذلك يساعد على الإنتظار، ربما؟ أو يتيح للابن، إن عاد، أن يستأنف الحياة التي كانت له، من فور وصوله.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر تكافىء الأمّهات الآن إذ تقول لهنّ بأنّ أرشيفا سيعدّ عن كلّ حالة خطف جرت في سنوات الحرب اللبنانية، بدءا من عام 1975. هذا عمل ينبغي أن يؤدّى، ترى اللجنة، ما دام أنّ الهيئة الرسمية التي كان أعلن عن لزوم تشكيلها، دخلت في طور الإنتظار المديد نفسه ولم تتشكّل بعد. كلّ شيء يتعلّق بالمخطوف قبل اختفائه تحتاجه اللجنة، حتى الملف الخاص به لدى طبيب أسنانه، حتى الأشياء التي كانت معه في لحظات خطفه واختطفت معه. خذوها، هذه هي كلّها، ستقول كلّ من أبقت على أشياء ابنها عندها في بيتها. قد يحيي ذلك أملا عندها، أوعند كلّ من كنّ مثلها إذ يشعرن بأنّ قضيّتهنّ تتحرّك الآن، أنّ هناك شيئا يحدث في هذا "الملّف" المنتظِر منذ أربعين عاما. 

أو يشعرن بأنهنّ يُلقين عن كاهلهنّ ذلك التساؤل الذي كنّا نرتجف كلما سمعناهنّ يدلين به: بدنا نعرف إذا ماتوا ولادنا أو بعدهن طيّبين. كأنّ أشياء كثيرة عالقة في الحياة بانتظار أن يعرفن. ربما يريح المسعى الذي ستقوم به لجنة الصليب الأحمر إذ هو يغلق صفحة الإنتظار ليفتح صفحة التأريخ. لقد انقضت المدّة الكافية لذهاب الأمور إلى الأرشيف. ثمّ أنّ هذه حقبة ينبغي أن يُختم ملفها ما دام أن حقبة جديدة تبدو موشكة على أن تبدأ، وقد عشنا في الأيّام الماضية بعض طلائعها. 
increase حجم الخط decrease