الخميس 2015/01/29

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

"من أجل نعم"... من أجل خيبة المسرح السوري

الخميس 2015/01/29
increase حجم الخط decrease
ليس سهلاً على صُناع المسرح احياء نصٍ قديم لكاتب غربي، على خشبة عربية، في هذا الوقت. فرغم أن النصوص المسرحية لا تموت بوصفها قابلة للمعالجة وإعادة الإنتاج، فإن العمل على نص موجود، وإخراجه، يتطلب خبرة وتمرّساً. كما أنه ليس سهلاً على الجمهور أن يصمد ساعة ونصف الساعة في وجه نص من القرن الماضي، من دون تشذيب، وبإخراج محدود الرؤية.

هذه الإشكالية تصبح أكثر تعقيداً إذا ما جئنا على نص مسرحي للروائية الفرنسية ناتالي ساروت، الرائدة في الكتابة التجريبية الصعبة والتفكيك السيكولوجي للشخصيات. إذ لم تنجح مجموعة من المسرحيين السوريين الشباب، أمس في مسرح "بابل"، في إخراج نص الكاتبة 1990 (Pour un oui ou pour un non) بصيغة تقارب المسرح ذاته قبل أن تقارب ما يمكن أن يشدّ اهتمام الجمهور.

العرض الذي أخرجه مجد فضة وأداه مع كل من فرح الدبيات وكامل نجمة، جاء غريباً عن الخشبة والجمهور. فالنص الذي يعالج إشكالية العلاقات الإنسانية والصداقة التي تجرفها كلمة استعلائية قديمة بين صديقي الطفولة، يصلح لأن يكون عملاً تلفزيونياً أكثر منه مسرحياً. تماماً كالفيلم الفرنسي الشهير الذي أُخذ عن النص وسُمي باسمه. على الخشبة أيضاً، ظهر بطلا المسرحية كأنهما يحاكيان كاميرا مثبتة أمامهما، حيث الرؤية الإخراجية الهزيلة ساهمت في جعل المسرح موحشاً وبارداً متحدياً أداء الممثلين الجيّد نسبياً.

في البداية، يظهر أن هناك خلافاً عميقاً بين عبود وسلام، جعل علاقتهما القديمة تتقهقر. وهما في جلسة على طاولة وحيدة في وسط المسرح، يحاول سلام استنطاق عبود ليتصعد الحديث بينهما بسياق مُتداعٍ على مستوى شخصية كل منهما وموضوع النقاش. فمن "لا شيء" إلى الاختلاف في أنماط الحياة وفهمها مروراً بعبارة "والله... برافو"، الموجهة من سلام لعبود في أحد لقاءاتهما السابقة، والتي يتمحور حولها النص كنقطة ارتكاز تبرز في كل مرة يحتدّ فيها الخلاف وتعلو الأصوات. التعبير الذي اعتبره عبود استعلاءً من قبل سلام، يلخّص علاقة الصديقين اللذين افترقا في الكبر، إلى نمطين مختلفين من الحياة. سلام المنخرط في العمل والعائلة والسفر، حيث كُل شيء مضبوط ومُقاس في مواجهة عبود الأناركي والهامشي بنظرته الشعرية للعالم من حوله. التوتر بين النقيضين يولد شحناً قوياً يظهر بين الصديقين على شكل ثنائيات قطبية بين الهامش والمتن؛ الفشل والنجاح، الفوضى والرتابة، الشعرية والعملية، التمرد والنظام... الثنائيات ذاتها التي تحكم علاقات البشر منذ مئات السنين. لكن العرض افترض أنها تظهر واضحة وصريحة ومركّزة حول جوهرها في حياتنا، غافلاً عن أن التنويع عليها، المتبدل مع الزمن والشروط، هو ما يعنينا.

النص الفرنسي لساروتن يفرض على الشخصيات تداعياً سيكولوجياً، فتحكي ما يُمكن أن تتيحه اللحظة النفسية، لذلك تجري على الدوام مُبادلة درامية بين طرفي الحديث، الذي تفشل الجارة رنا في تصويبه منطقياً، ويعود إلى توليد ذاته من نقاط متباعدة وصولاً مكان واحد. كما يفترض النص وجود سلطة غير معرّفة تتحكم بعلاقات البشر وتقرر مصائرها، فالجدل كُله ما كان ليحصل لو تمت الموافقة على طلب عبود بقطع علاقته بسلام. هذه الفكرة الذكية، وغيرها من ارتكاسات الماضي بين البطلين لم يتم تجسيدها إخراجياً. هذا مع أن السرد يحتمل الامتداد الحركي والصوري على كامل المسرح، ويقبل تلاعباً بالزمن والحدث ورفعاً وخفضاً للأداء وتوظيفاً واسعاً للسينوغرافيا. على العكس، فلا يمكننا التكلم هنا عن أي مهارة إخراجية منذ كان الممثلان يجلسان على طاولة أو يتحركان قليلاً حولها، هكذا كان العرض ذهنياً وغير ممتع.

تجربة فضّة ورفاقه، وهم من المتخرجين في المعهد العالي للفنون المسرحية، لا تعكس فقط ضعف الإمكانات المسرحية بل أيضاً أزمة المسرح والثقافة بشكل أعمّ في سوريا، إذ يخطر لنا للوهلة الأولى أننا أمام جيل شاب جديد نسبياً ومتمرّد على الجيل القديم الذي صنع هامشه على متن "البعث". لكننا لا نلبث أن نعود إلى هامش جديد على متن الهامش القديم... وهكذا.

المشكلة الحقيقية هنا أنّ هذه التجارب الجديدة تدفع إلى الحيرة في النقد، فلا يمكن أن نمتلك قولاً نوستالجياً لأن الحقبة الماضية انطوت بلا عودة، مع انطواء عهد النظام البعثي. ولا يمكن في مكان آخر، أن نؤسس بكتاباتنا مديحاً لمرحلة جديدة يكاد ينعدم فيها الابداع وتقلّ فيها المُنافسة. إنه مكان في الثقافة يتعثّر فيه الزمن، ويتسع للخيبة فقط.

(*) يستمر عرض المسرحية في "بابل" حتى 31 كانون الثاني/يناير الجاري.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها