السبت 2014/10/25

آخر تحديث: 12:01 (بيروت)

بشر موراكامي يأتون من جديد

السبت 2014/10/25
بشر موراكامي يأتون من جديد
increase حجم الخط decrease

يحّدد هاروكي موراكامي زمن ابتداء وقائع روايته تحديدا غاية في الدقّة: الحادية عشرة وست وخمسون دقيقة، أي قبل أربع دقائق فقط من انتصاف الليل. ولكي يعرّفنا على "ماري" شخصية الرواية الأولى يأتينا من علٍ، من حيث يبدأ نزوله إلى كوكبنا، ثمّ يروح يضيّق جغرافيا الأرض العريضة ليصل إلى طوكيو، ومن هناك، مستمرّا في تضييقه المساحات، يصل بنا إلى مطعم دينيز حيث نشاهد ماري على إحدى طاولاته تقرأ في كتاب.

تجري أحداث الرواية في تلك الليلة التي لم تعيّن فيها إلا ساعاتها ودقائقها، من دون ذكر أيّ تفصيل آخر يتعلّق باليوم أو الشهر أو السنة. أما المجرى الزمني الذي تحدث فيه فسبع ساعات بدأت في التاريخ المذكور أعلاه وانتهت في السادسة واثنتين وخمسين دقيقة صباحا (وقد عيّن موراكامي التوقيت بوضعه في بداية كل فصل من الفصول رسما لساعة يشير عقرباها إلى الوقت الذي سيبدأ جريان الأحداث فيه). كانت ماري قد قرّرت أن تبقى هذه الليلة بعيدة عن بيت الأهل، إذ لم تعد تحتمل ذلك النوع من الإختفاء الذي أوقعت شقيقتها نفسها فيه. مبتعدة عن العالم كلّه، إنعزلت إيري أساي في غرفتها، بل في سريرها، بل في نومها الذي لم تستفق منه أبدا، وذلك منذ أن أوصدت بابها قبل شهرين أو أكثر. ذلك النوم، أو السبات الذي لا تندّ عن مشهده حركة، جعل له الروائيّ موراكامي حيّزا متسّعا من روايته، ملاحقا أيّ نأمة أو تغيّر في الظلال أو رعشة طفيفة تظهر في موضع ما من وجه الفتاة النائمة.

ماري، الأخت الساهرة، لن تنقضي ليلتها الإستثنائية تلك من دون حدوث ما يجعلها تغيّر ما كانت تظنه عن  حياتها الرتيبة المؤلمة. وهي هناك جالسة إلى طاولتها في المطعم يتقدّم منها الشاب تاكاهاشي مذكرا إياها بأنه سبق لهما، مع أختها وصديق أختها أن التقيا، وكان هو مغرما بالأخت إيري أساي. لم يلق بالا إلى ماري آنذاك، وفي جلستهما معا في ذلك المطعم سألها إن كان بإمكانها أن تساعده على معاودة الإتصال بأختها. لكن ما أفضى إليه ذلك هو اقترابه أكثر فأكثر من ماري الساهرة، لكن من دون أن تفضي تلك الليلة إلى شيء بينهما. لم يتقدم ميل تاكاهاشي نحوها خطوة حاسمة، أو خطوة واضحة إلى الأمام. فقط ذلك التغيّر الطفيف في المشاعر على رغم الحوارات التي استغرقت عشرات الصفحات بين الإثنين.

إنها رواية صامتة لم تبعث فيها الحادثة التي جرت للفتاة الصينية التي انهال عليها ضربا وسرق ثيابها زائرُها في فندق الحبّ، أو فندق المتع العابرة. كانت ماري، لكونها تجيد التكلم بالصينية قد استدعيت إلى الفندق لتترجم ما تقوله الفتاة المومس عن حادثتها. ذلك الفاصل زوّد الرواية بحركة تفتدقها، وهي، من ناحية ثانية ذكّرت بذلك الخلط بين طبائع الأفراد الساكنة والعميقة الغور بالمنحى البوليسي، ذلك الذي أدخله ماروكامي في عدد من رواياته. لكن، مع ذلك، غلب على الرواية طابع السكون. ذلك المعتدي الذي لم تبتعد الرواية في وصفه عن كونه رجلا مغرقا في عاديته، لم ينل منه أحد ولم يلق عقابا. ربما أوحت الرواية أن ذلك قد يتحقّق بعد وقوفها عند حدّ الأحداث الذي توقّفت عنده، لكن ما نخرج به، نحن القراء، هو أن هذه البوليسية لم تكتمل، وإن راح الرجل المهدّد بالإنتقام يظهر سائقا دراجته النارية مرة بعد مرة.
لم يحصل شيء دراماتيكي في الرواية إذن. الماضي الساكن الذي تتداول ماري بذكراه ظلّ ساكنا، وكذلك الحاضر الذي لم يؤكّد ما وعد به. فقط ذلك الإقتراب الذي جمع الأختين في السرير الواحد. كانت ماري قد أدركت أنهما هي وأختها عاشا مبتعدتين إحداهما عن الأخرى، وهي كانت تظنّ أن أختها إيري ساي لا تكنّ لها أية مشاعر. ما غيّر ذلك، وما جعل الرواية تنتهي بذلك الإتصال بين الإثنتين، كلمة ذكرها تاكاهاشي لماري: قالت أختك لي مرة إنها تتمنى أن تتحدا مثل أختين. تلك الكلمة، العابرة في الحوارات التي استمرت لساعات، مستغرقة الكثير من صفحات الرواية، تمكّنت من أن تجد نهاية لذلك العالم الذي يصعب فيه أن يقترب أحد من أحد.

لم نوعد أيضا بأن أيا من الأختين ستشفى جرّاء عناقهما، بل التحامهما معا، على ذلك السرير. لم يكن ذلك الإلتحام أكثر من فكرة عبرت في ذهن موراكامي لاختتام الرواية، من دون أن تكون كافية، أو مقنعة، لتكون حصيلة لكل الأزمات النفسية والإجتماعية التي حفلت بها صفحات الرواية ال239.

• رواية "ما بعد الظلام" لهاروكي موراكامي صدرت عن "المركز الثقافي العربي" بترجمة أنور الشامي.  

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها