الأربعاء 2015/06/03

آخر تحديث: 12:21 (بيروت)

تلك الفتاة بثياب البحر... إنها تقرأ!

الأربعاء 2015/06/03
تلك الفتاة بثياب البحر... إنها تقرأ!
وما نعرفه عن القارئين ذوي الشهرة أنهم آثروا أن يوصفوا بكونهم كبارا مسنّين
increase حجم الخط decrease
وحدها تلك الفتاة، من دون الكثيرين الذين ازدحم بهم شاطىء يوم الأحد، كانت تقرأ. ليس جريدة، مثلما قد يقرأ الرجال، بل كتاباً. كان المشهد كأنه يعود إلى الظهور من سنوات سبقت، أو يستدعي صورا من منتجع سياحي في بلد آخر. أوّل ما يخطر للعابر أمامها، ولم تمض دقيقة على وصوله إلى هناك، هو أن يرى غلاف الكتاب. ربما سيمكنه ذلك إن اتجه إلى تلك المقاعد الممدودة مثل أسرّة، حيث المسافة القليلة بين الفتاة وبين الماء. من الغلاف، أو من العنوان الذي في الأعلى، قد يعرف أشياء كثيرة، بينها مثلا إن كانت قارئة حقيقية أو أنها أتت هكذا تستعرض نفسها بوحي من صور الإعلان تلك. أو ربما قد يجد صلة بين ما تقرأه هي وما يميل هو إليه، لكونه قارئا هو أيضا. وذلك قد يسهّل له، هو النازل إلى البحر بمفرده، أن يشير إلى ما يعرفه بقوله، لها، كلمة عابرة.


أو ربما يندهش من رؤيته ما قد يكون مشهدا أوّل لما سيصير موضة بين من هم، ومن هنّ، في عمر الشباب الأوّل. إن كان الأمر كذلك حقّا فسيشعر، هو الذي جاوز ذلك العمر، أنّ ما رآه للتوّ سيجدّده. لقد انقضت سنوات كثيرة على الزمن الذي كان يحتفل فيه بكونه قارئا وهو، الآن، قلما يجد، بين أولئك "الصغار" من يشاركه في الإحتفال. وهو صار لذلك، بدلا من أن يبقى متصّلا بأولئك الجدد، بات ينتسب إلى أولئك الذين جاؤوا قبله، العتاق أو المعتّقين. واحدهم هو "الآب" بذاته كما يقول دانيال بِناك واصفا القارىء بكونه ذاك "الناسك من عهد ما قبل الطوفان، المتربّع منذ الأزل على جبل من الكتب التي امتصّ عصارتها حتى فهم علّة كل شيء".

وما نعرفه عن القارئين ذوي الشهرة أنهم آثروا أن يوصفوا بكونهم كبارا مسنّين، حتى وإن بدأوا القراءة في أعمارهم المبكّرة. من منا مثلا يتخيّل صورة خورخي بورخيس في شبابه؟ من يستطيع أن يعيد طه حسين إلى شبابه أيضا، على الرغم من أنه أنهى وصف نفسه في كتاب "الأيام" وهو بعد في عمر الغرام.

أو ينبغي أن يكون القارىء، في المألوف عنه، إنسانا إنطوائيا تماما، منكفئا عن الحياة: ليس رياضيا بالمرّة، لا يمزح، لا يحبّ الأكل ولا الثياب، ولا السيارات، ولا التلفزيون.. بحسب ما عدّد دانيال بِناك. وهنا، لكي يكمل الرجل النازل إلى البحر تقصّيه، عليه أن يقترب  أكثر، ليس من أجل عنوان الكتاب فقط، بل من أجل الفتاة القارئة، ليعرف إن كانت جميلة بعد رفع النظارات السوداء والقبعة التي تقيها من الشمس. إن كانت فعلا كذلك، جميلة، نكون بإزاء ما كنا قد أسقطناه تماما من توقّعاتنا حيال القراءة والقارئين.

المهم، بل المهم جدا، في كتاب بِناك إخراجه القراءة من دائرة أبطالها الضيّقة، الكبار والإنطوائيين وأولئك المنقطعين عن الحياة. إنه الكتاب الأول الذكي واللامع الذي يأخذ القراءة إلى أولئك الجدد. الذكي لأنه يعرف أنهم أذكياء، وأن كلام الأوصياء الناصح والمرشد ينبغي التنكيت عليه. وأن ما جعل هؤلاء يديرون ظهورهم إلى القراءة هو المدرسة، "المنهاج الدراسي" الثقيل الظل، ذاك الذي يريد من التلميذ أن يفهم مما قرأه ما يريد الأستاذ منه أن يفهمه. ثم هناك الخوف من عدم الفهم، والخوف من الإجابة الخاطئة، الخوف من الواقف هناك حارسا للنصّ...

هناك لائحة بالحقوق التي جرى منعها عن الشباب في ما خصّ الإقبال على القراءة. يقترح بِناك أن تعاد هذه الحقوق إلى أصحابها، وبينها: الحق في عدم القراءة، الحقّ في القفز عن الصفحات، الحق في عدم إنهاء الكتاب، الحق في قراءة أيّ شيء...إلخ.

لائحة الحقّ هذه تخطّت من كان يقصدهم بِناك. إنها للكبار أيضا، للأساتذة، لأولئك القلائل من المقيمين بين الكتب. إنها تحرّر هؤلاء من الذنب، بل من الذنوب ومن اتهام النفس بالكسل  وضيق الخلق  ومن السؤال المرهق: لماذا لم أفهم، مع أنني قرأت هذا المقطع ثلاث مرّات.

*كتاب دانيال بِناك "متعة القراءة" صدر عن "دار الساقي"، نقله عن الفرنسية يوسف الحمادة في 158 صفحة، 2015. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها