الخميس 2014/09/18

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

صداقة السيّد هاني

الخميس 2014/09/18
صداقة السيّد هاني
أوّل ما خطر له إثر عودته من النجف، هو اشتراكه مع شعراء ومثقّفين في تأسيس "منتدى أدباء الجنوب"
increase حجم الخط decrease

أوّل ما خطر للسيّد هاني القيام به إثر عودته من النجف هو اشتراكه مع عدد من الشعراء والمثقّفين في تأسيس ما أطلق عليه آنذاك، في مطالع السبعينات، منتدى أدباء الجنوب. في اللقاءات الأولى التي كانت تعقد في منزله بجبشيت بدا أن غيابه هناك، في النجف، لم يبعده عما كان استجدّ في الحركة الأدبية التي كانت ناشطة آنذاك هنا في لبنان. وهو، إلى ذلك، راح يطلق أسماء لم نكن نعرفها لكتاب عرب، بينهم محمد خضيّر وعبد الأمير معلّا وفاضل العزاوي، وجميعهم عراقيّون. غير أنّه في إحدى السهرات قرأ لنا قصّة كاملة لجمال الغيطاني مستغرقاً في ذلك ما يقرب من ساعتين. لم أعد إلى قراءتها ثانية، لكنني ما زلت أذكر احتفاء السيّد هاني بتلك النبرة التي كتب بها الموظّف البسيط شكواه من مديره القاسي، وهذا هو شكل قصة الغيطاني ومضمونها. وفي السنوات القليلة التي تلت، ظهر ذلك الإحتجاج الذي حملته القصّة نزوعاً ثانياً عنده، بدأ بمشاركته الفاعلة، والقائدة (مع الراحل العلامة السيد علي مهدي إبراهيم والسيد كاظم إبراهيم) في حركة مزارعي التبغ التي كانت بمثابة إعلان احتجاجي نادر لفلاحي لبنان.

وربما ذهب السيّد هاني في نزوعه الثاني إلى أبعد مما ذهب إليه أصدقاؤه المثقّفون. أما سبب ذلك فهو، في ما أحسب، نشاطه الفائض وكرهه للإنزواء والإكتفاء بالتفرّج. ذاك أنّ رياحاً كثيرة كانت تهبّ على لبنان منذرة بتغيّره عن حاضره. ومثلما كان، هو رجل الدين، مثقفاً بين مثقّفين، لم يشأ أن يكون في العمل السياسي والقتالي حامل آراء وفتاوى فقط. لفترة غير قصيرة انخرط في المقاومة الفلسطينية، ثمّ ترشّح للإنتخابات النيابية ليدرك من بعدها أنّ احتكار "التقليديين" للتمثيل السياسي قائم على أركان يصعب زحزحتها.

ولم تنقطع الصلة بالسيّد هاني على الرغم من سعيه في اتجاهاته الكثيرة. ذاك أنّه، وهذه ميزة أخرى فيه، كان يوسع صداقاته ويعدّدها. لم يتغيّر ذلك عنده. عارفوه من الزمن الأوّل ذاك يقولون إنّ ذلك التجوال كلّه لم يغيّر كثيراً في ما كانه. في ما خصّني، أرى أنّ نطقه لبعض الكلام الذي يؤثره ويحبّه لم يزل هو نفسه. أقصد استمتاعه الظاهر لسامعه وهو يستعيد بيتا من قصيدة، أو جملة من تلك التي يرغب في أن يتلقّاها سامعه بقدر الإفتتان الذي تثيرها فيه، هو نفسه. في لقاءاتنا الأخيرة، وكلما رأيته مستمتعا بما يحبّه من الكلام، كنت أقول إنّ السيد هاني ما زال رومنطيقيا، بل على شاكلة الرومنطيقيين السابقين، أولئك الذين لم يختبروا كيف تزداد الحياة تعقّداً كلما مضينا فيها قدما. أو فلنقل إنّه احتفظ لنفسه بذلك الشيء، مبقيا إيّاه حياً من أيام يفاعته.

السيد هاني ظلّ صديقاً لمن عرفهم في مراحل سابقة من حياته. لم يستبدل أحدا بأحد، الجديد بالقديم مثلا، بل إنّه ظلّ يزيد أصدقاءه ومحبيه من حوله. يظهر ذلك من وقوع مرضه صادماً على جميع من عرفوه في زمن صداقاته ومعارفه الطويل. الذين لم تكن لهم به صلة شخصية حزنوا لإصابته بالمرض الذي بدا أنّه لن يبارحه سالماً. ذلك عائد للطفه وسعة علمه وصدره، لكن أيضا لندرة وجود من هم مثله، رجل دين لم تحجزه جبّته وعمامته ولم تقيّده الأدوار الضيّقة التي رضي رجال الدين الإنضواء فيها. السيّد هاني فحص هو رجل الدين المعتمد، أو المقبول، من الكثيرين الكثيرين الذين من بينهم من يحبون أن يكون رجل الدين مساجلهم لا مفتيهم، أن تكون حدود معارفه في سعة ما يستجدّ علينا وعلى العالم من حولنا، وأن لا يكون فقط سلطة قاطعة للأمر والنهي.

لم يصل السيّد هاني إلى هذا بمسامحته وحدها. أحسب أن بعض ذلك راجع إلى حفظه لعادات زمن سبق حين كان رجل الدين متّخذا أصدقاء من خارج سلكه، أو من خارج ما يحبّذه له سلكه. في منزل الشيخ علي بجبشيت كنا نسهر، نحن محبّي الأدب، مع السيد هاني ورجال دين كانوا يقبلون منا أن نقول ما يحلو لنا، وكانوا يردّون علينا بما يحلو لهم، من دون أن يفارق وجوههم الإبتسام.

increase حجم الخط decrease