الأحد 2014/07/27

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

"تايتانك": كوريغرافيا الصدمة في عالم ناهض

الأحد 2014/07/27
increase حجم الخط decrease

يكثر الربط بين الشعر والفنون التصويرية. هذه الحال السائدة في العرض الراقص "تايتانك"، على خشبة مهرجانات بيد الدين. عرض شعري وسط ديكورات، واللذة في إعادة تمثيل الأشياء فنياً وبإتقان. تُؤلف الصور من الإنسجام بين الماضي والحاضر. صحيح أن العرض، ليس هنا في طلته الأولى. غير أنه لا يزال طازجاً، كما لو أن صنّاعه ما أن ناموا حتى استفاقوا على شكله. بالأخص المخرج فريدريك فلامان، كاتب العرض، المستعيد الواقعة الشهيرة، في باليه معاصر.

تلخص الوصفة هذه جملة الأعمال الراقصة، في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. لا انتقاص في هذا التوصيف، لأن الوصول إليه استغرق عشرات السنوات من الشغل والكتابة الكوريغرافية والتجريب، بحيث توصلت مجموعة من الأسماء العالمية إلى هذا التلخيص. "تايتانك" لا يشذ عن القاعدة هذه. قاعدة بيجار ومارتا غراهم وإزادورا دنكان ورون باتي وماغي ماركيف وغيرهم. هكذا أصبحت للرقص وصفته. إنها تتكرر هنا، بأجواء من الأفعال الجدية غير اللاهية. لأن الخروج على القواعد الأكاديمية والكلاسيكية، يحتاج إلى الإنضباط عبر الكثير من الضوابط، تلافياً للهيجانات والإنفلاتات، ما يشكل خطراً، لا على التصميم وحده، بل على فكرة حضور الرقص، بعد إخراج الراقص من ثوبه القديم.

لغة فنية لافتة في العرض الراقص، من فريدريك فلامان، الميال إلى الذات الفنية لبيجار، باعتماده في كتابته الكوريغرافيا وحركة الراقصين، على مفهوم جمع المصادر والأساليب من العديد من الروافد البصرية والحركية والموسيقية، من دون انحراف عن أحلام التقدم الدائم. لا تبدأ قراءة العمل الراقص من ديكوره، الباهظ. لأن الديكور المقيد للفن بالمنطق وبالتخييل على حد سواء. كتب حضوره بالرفعة عبر التكثيف والإشارة إلى المحددات الأساسية في الباخرة العملاقة الغارقة في بداية القرن الماضي، إثر اصطدامها بجبل جليدي، بعد انطلاقها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، عبر المحيط الأطلسي. حادثة العام 1912، الأكبر في التاريخ، بناها الكوريغراف الفرنسي على الصدمة. صدمة العالم الصناعي الناهض، في ذلك الوقت، كمؤشر على رفعة الثورات الصناعية، عبر الصور الحديثة المستبشعة الصور القديمة (البواخر وناطحات السحاب، تعبيران ساطعان على إخراج الصور المشتهاة من الذهن إلى أرض الواقع). كتب العرض الراقص بروح الصناعات الحديثة، لا على المستوى المرئي وحده. على المستوى الروحي أيضاً، من خلال علاقات الراقصين ببعضهم، في الوحدات والثنائيات والجماعيات، عبر الأسلبة. كتل ألمنيوم براقة، كتل أخرى مدهونة باللون الأسود، يدور الراقصون وسطها وعلى حافاتها، صممها الإيطالي فابريسيو بليسي، بهدفين. نفي الظن بأن ما يحدث، يحدث في الواقع. وأن متعة الرقص، لا تقوم، سواء بملابس الرقص التقليدية أو بالملابس الحديثة، إلا بتوفير المساحات المحفزة، لكل ما هو حسي وانفعالي.

لا يلخص الديكور العرض. في العرض أشياء كثيرة، تجزل الحضور، الرقص في مقدمها، حيث رسم الراقصون على المنصة، الباهرة الحضور، حضورهم المؤسلب، ببساطة لا يصل إليها إلا بالغ الغاية القصوى في الرقص. كل ما على الخشبة على قدر واضح من الإحتراف، في الطريق إلى تجرع اللذة عبر الحادثة المأسوية. خلط الخاص (الفن) بالعام (الحادثة) أفضى إلى إدراك ما تخطى الملائم، إلى واحد من العروض القليلة المشهودة المازجة بين حسن المحاكاة وبين نقش الصور، سواء بالجسد أو بالإتفاق بين الموسيقي والفيلمي. مساحة مبنية، بين الحسي والمتخيل والمتذكر. لا بأس من استعمال الأدوات والتقنيات المتوفرة. كلها. السخاء واضح، على المنصة. شكل ذلك، واحدة من معاضل وصول العرض إلى لبنان بحلته الأبهى، على ما صرحت السيدة وفا صعب، العضو المؤسس لمهرجانات بيت الدين، لـ"المدن"، بعد العرض مباشرة. "لا تحديد للذة بالماديات وحدها". كثفت واقع العرض في ذلك.

الأداء الميال إلى الحرية، كما يبدو على عشرات الراقصين، الأشكال الحرة على خشبة المسرح، لا تذكّر فقط بواحد من الأحداث الأثنية الضخمة في تاريخ العالم، حين تجسده على هدى مقولة نيتشه المزلزلة "لا أؤمن بإله لا يجيد الرقص". قياس المقولة على راقصي "تايتانك"، تحول الراقصين إلى آلهة هجينة، مشكلة من بشريات وإلهيات (بالكلام على إثنية الحدث، ثمة من يروي أنه تم إعدام الكثير من الركاب العرب على متن الباخرة). لعبت الموسيقى دوراً بارزاً على صعيد التعبير الجسدي. مقطوعات موسيقية من شارل إيف وأنطوان دفوراك وألفريد شنيتكيه.

لا يزال صدى المسرحية الراقصة يتردد، منذ عرضها الأول مع "باليه مارسيليا الوطني" العام 1992 في مدينة شارلوروا. جزء من ثلاثية، بدأت مع "سقوط إيكاروس" وانتهت مع "إكس ماشينا". خطوة جريئة، لأن تناول الحادثة، جرى في أضيق النطاقات في العالم الفني والثقافي. جيمس كاميرون قدمها في فيلم سينمائي. لا تذكر أعمال أخرى في المجال هذا، إلا إذا اعتبرنا الرواية المكتوبة عن غرق الباخرة العملاقة، قبل غرقها، عملاً مكتوباً عنها. ذلك أن مورغان روبيرتو كتب رواية عن الباخرة قبل أن تغرق، قبل أن تجري صناعتها. كتب في العام 1898، أي قبل 14 سنة من حادثة الغرق، رواية اختار لها عنوان "العبث"، روت حكاية الباخرة العملاقة "تايتان" غير القابلة للغرق، وهي تغرق إثر اصطدامها بجبل جليد في "ليلة باردة من ليالي إبريل بالمحيط الأطلسي".

أما عرض بيت الدين فمزج بين الرؤى والموسيقى المحسوسة، على نيو كلاسيكية وحداثة واضحة المعالم في مضمار واحد لا علاقة له بمضامير السباقات.

increase حجم الخط decrease