الجمعة 2014/10/31

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

دفاعاً عن إلحاد الإنشقاق

الجمعة 2014/10/31
دفاعاً عن إلحاد الإنشقاق
كلام نصرالله عن الإلحاد يحضر داخل المجالين الحربي والصراعي في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد اندلاع الثورة في سوريا
increase حجم الخط decrease

لم يود أمين عام "حزب الله"، حسن نصرالله، خلال خطابه في الليلة الأولى من عاشوراء، "تكبير الموضوع"، المتعلق بـ"موجة الإلحاد"، التي تضرب العالم العربي-الإسلامي. لذا، تحدث عن "بدايات خطرة"، مردها ابتعاد المؤمنين عن دينهم، بعدما جرى اختصاره بالأفعال التكفيرية، أي بعدما صُوّر الإسلام السلفي الجهادي على أنه هو الإسلام بعينه. بالتالي، ضروري تلقف هذه "البدايات" من "باب الإحتياط" كي لا تستحيل "تياراً أو ظاهرة كبيرة"، لا يمكن التحكم فيها أو وضع حدّ لها.

غير أن كلام نصرالله عن الإلحاد يندرج في سياقٍ خاص به، يحضر داخل المجالين الحربي والصراعي في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد اندلاع الثورة في سوريا. وقد ألف هذا السياق على إثر الوضوح، الذي تتسم به ممارسات "الدولة الإسلامية في العراق والشام" على أرضِ الموت البائن، التي لطالما كانت محكومة بالأبد المخاتل.

ونتيجة ذلك الإنتقال، كان لا بد من طرح سؤال عن الموقع الزمني للإسلام "الداعشي" في هذه الخريطة الجديدة. لكنه جاء على شكل استفهام ضعيف، وهو: "هل تمثل داعش الإسلام الصحيح أم لا؟". إذ لا يعين على البحث في حدث تنظيمي جديد، كما لا يساعد على مواجهته. وغالباً ما يستند المستفهم إلى التأويل النصي - التاريخي الخالص، كي يجيب بالتأكيد أو بالنفي، من دون أن ينتبه إلى أن الوقوف على حدث "الدولة الإسلامية" يستلزم أكثر من مقاربة، لا سيما الجغرافية منها. فذلك التنظيم يعتمد شعاراً أرضياً، خرائطياً، "باقية وتتمدد"، ولا مناص من الإرتكاز إليه للتمكن من إدراك "داعش" وفهمها أكثر.

على أن الإستفهام المذكور ليس ضعيفاً فحسب، بل إنه نظامي أيضاً، مركب بالتجريد المؤبد، أي بمعنى تأبيد الدين الإسلامي وربطه بـ"صحة" آحادية، وهو لا ينتج سوى الإلتباس، وإجاباته التي تحدد "الإسلام الصحيح" تاريخياً. ثم، تذهب بمقارنته مع الإسلام "الداعشي"، تفتيشاً عن أوجه شبه وأقنعة فرق، والعكس. والحال، إن نصرالله، بوصفه قائد سلطة دينية مسلحة، تعاون عصابات بشار الأسد في القضاء على الهاربين من نظامها، باستطاعته أن يطرح الإستفهام نفسه. وهذا ما فعله في خطابه، كي يتكلم عن "موجة الإلحاد"، ويحذر منها، داعياً إلى مكافحة الإسلام "غير الصحيح"، وتقديم صورة مختلفة عنه. تماماً، مثل أي طرف آخر، قد يكون معارضاً للأبد، لكنه ينطلق من الإستفهام ذاته كي يتكلم عن "موجة التطرف"، ويحذر منها، داعياً إلى مكافحة الإسلام "غير الصحيح" وإلى "الإعتدال الديني".

والتماثل، هنا، بين المستفهمين، أي نصرالله والطرف الآخر، مردّه أن الإثنين يؤلفان استفهامهما نظامياً. الأول، كي يعزز الأبد، والثاني، كي ينفصل عنه من دون أن ينشق. فالممانعة واللاممانعة يتبادلان الإستفهامات نفسها، لا سيما بعد ظهور "الدولة الإسلامية"، في حين أننا لا نحتاج سوى إلى الأسئلة!

طرح نصرالله الإستفهام من دون أن يذكره، وأجاب عليه من خلال تحويل موضوعه، أي الإسلام السلفي الجهادي ممثلاً في "داعش"، من حدث إلى ظاهرة، وعبر تكريس التأويل التاريخي، والدعوة المباشرة أو غيرها، إلى العودة إلى وقائعه. وذلك، للتأكيد على أن "التكفير" لا يعكس "الإسلام الصحيح" على الإطلاق. وطبعاً، أمين عام حزب الله ركب خطابه انطلاقاً من موقعه إلى جانب "سوريا الأسد". فحربه ضد "داعش" استمرار للحرب بين سلطتي الأبد والموت، المخادعة والوضوح. وحزبه، على ما هو معلوم، لا يريد الخروج من أرض البيان و"دولتها"، بل العودة إلى أرض الإبهام ونظامها. بعبارة أخرى، يمنع مبارحة أرض "الدولة الإسلامية" إلى أرض أخرى، لا علاقة لها بـ"داعش" أو الأسد، وبذلك "يحتاط" ويستهدف الإلحاد، باعتباره فعلاً أو إدراكاً إنشقاقياً يتخطى المبهم والواضح على حد سواء.

يشدد نصرالله على أن أخطار السلفية الجهادية "مشابهة لعامي 60 و61 للهجرة"، تحدق بـ"الإسلام كدين، كرسالة كقيم، كمفاهيم"، وبـ"كيان المجتمع الإٍسلامي الفتي والناشئ والجديد والذي أقيم على مفاهيم جديدة وتقاليد جديدة وثقافة جديدة". فـ"ما يجري اليوم هو أكبر تشويه للإسلام في التاريخ"، ووقائعه " قلّ نظيرها في التاريخ، وإن كان لها نظير، ويبدو لها في بعض الأماكن مظاهر" لا تصل إلى الناس، مثلما يحصل اليوم، عبر وسائل الإعلام، التي تسمح بمُشاهدة ومعاينة المجازر والإبادات بالصوت والصورة.. "وأنتم تعرفون أن هذا أشد تأثيراً في العقول والقلوب والمشاعر حتى من النقل الشفهي أو الكتبي".

وعليه، ثمة إساءة موجهة إلى التاريخ الإسلامي، الذي لم تكن للممارسات المتطرفة خلاله وقعاً مماثلاً للذبح "الداعشي" على سبيل المثال، بسبب غياب الإعلام آنذاك، فقد كانت عبارة عن مظاهر لا أكثر. أما اليوم، فهي أحداث منقولة، وقد تدفع متلقيها إلى الإبتعاد عن الإسلام أو الكفر به.

لا شك أن نصرالله، في هذا الكلام أو غيره،  يؤكد على محورية التاريخ، تفتيشاً عن "الإسلام الصحيح" الذي يتحرك من الماضي نحو الحاضر بطريقة مستمرة، لا تقطعها سوى المظاهر التكفيرية التي سرعان ما يحولها الإعلام إلى أحداث صوتية وصورية. فأمين عام حزب الله يتصدى للسلفية الجهادية بالتأويل التاريخي، وما أن يتطرق للجغرافيا حتى يختار موضوع الأرض، كمثال تاريخي أيضاً، شكله كروي، وحركته الأساس هي الدوران حول النفس وحول الشمس. ثم ينفي علاقة "داعش" بالجغرافيا:"لا أعرف داعش ماذا يعلمون بالجغرافيا وعلم الفلك". وذلك كي يقيد مقاربة "داعش" بنظرة تاريخية، بمعنى دائري مغلق، لا تُخرج المعتقدين بها من تاريخية الحزب، ولا من جغرافية "الدولة الإسلامية". بل تدفعهم إلى تكرار الإستفهام عن "داعش" وصلته بـ"الإسلام الصحيح" كدوران حول النفس، أو حول الأبد.

لكن، مَن القادر على تحديد الموقع الزمني لـ"الدولة" على أرض الموت أكثر من اصحاب الإدراك الإنشقاقي، من الملحدين وغيرهم من المنشقين؟ هؤلاء الذين لا يبالون بالبحث عن نموذج تاريخي للإسلام، مقارنين إياه بالإسلام "الداعشي"، والذين يحاولون طرح أسئلة، تنطلق من كون الدين الـ"داعشي" هو دين الوضوح، ولا داعي للبحث فيه على أساس الصحة والبطلان. مثلما أنه دين يُمارس على أرض الموت، ويتطابق معها، كأن يُبحث عن جغرافيته هذه، وكيفية تمددها. وذلك، للتصدي له، ومحاربته على الأرض، لا من الجو، فيبقون على "بقائه".

حين يحتاط حسن نصرالله، ويحذر، على عادة حروبه الإستباقية، من "بدايات موجة إلحاد"، يعرف أنها قادرة على التحرك إنشقاقياً عن إستفهامات "ممانعته"، فتجتاز أرض "داعش" بعدما تخطت أرض "سوريا الأسد"، تعبُر الوضوح بعدما عبرت الإبهام، وتطيح بإله الموت بعدما أطاحت إله الأبد، ربما، نحو آلهة متعددة: إله الشارع، إله الإنتفاض، إله العبور، إله الجوع، إله الغناء...إلخ، أو نحو انعدام تام للإله، وهذا حديث آخر.

إلحادنا، بوصفه إدراكاً مختلفاً للأحداث، ومقاربة غير "دورانية" لها تتعدى إستفهام صحة الدين وبُطلانه، هو سبيل من سُبل إنشقاقنا عن آلهة الأنظمة، وصناعة آلهتنا المغايرة، التي بمقدورنا الإيمان  بها بحرية، وبلا خوف. 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها