الأربعاء 2014/10/08

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

كاباريه "الراحل الكبير": سخرية على حافة الهاوية المشرقية

الأربعاء 2014/10/08
increase حجم الخط decrease
قبالة ساهرين لا يتجاوز عددهم المئة شخص، جلس في نصف دائرة على منصة مسرح "مترو المدينة" الصغير، ستة من أمثالهم أو يشبهونهم، يؤلفون فرقة أو جوقة "الراحل الكبير" للأداء والغناء.

معظم الساهرين والساهرات في أعمار شابة أو تجاوزت الشباب، لكنهم جميعاً يأبون مغادرته في أسلوب حياتهم. وقد يكون هذا ما يجمع بينهم، إضافة الى أنهم وأنهن ممن تقطعت وتقاطعت أو تضاربت سيرهم ومساراتهم الحياتية، تحاربهم وأهواؤهم، المضطربة في بيروت المدينة الفوضوية، التي ربما وحدها، بين مدن المشرق (سوى القاهرة)، لم تخبُ بعدُ ملامح الحياة المدينية والليلية في بعض شوارعها. فتسوق هذه الشوارع ساهري "المترو" وسواهم في الأمسيات، الى حيث ما زال للحياة الليلية والترفيهية فضاء مفتوح، متحول، وينطوي على وعدٍ ما غامض أو مجهول، ولو خافت ومضطرب، في شارع الحمراء.

وحدها فتاة الفرقة، ساندي شمعون، لم تضع على عينيها نظارة سوداء. أما على عيني كلٍ من شبان "الراحل الكبير" الخمسة، فتبدو النظارات السوداء ساخرة، أو للسخرية، ما أن تنفتح ستارة المسرح عنهم، وتقع عليهم أبصار الحاضرين، المشاهدين - المستمعين. خلفهم، في وسط منصة المسرح، يرتفع ما يشبه شاهدة خشبية مرصعة بمصابيح صغيرة مضاءة. في وسط الشاهدة إطار أو برواز خشبي للصور، لكنه فارغ ليس فيه صورة، للكناية عن "الراحل الكبير" كناية ساخرة. يقولون إن راحلهم هو التراث الموسيقي والغنائي الشرقي، بعد خروجهم منه وعليه خروجاً هزليا ساخراً، لكنهم متحدرون منه تحدّر الأبناء والأحفاد من آبائهم وأمهاتهم ومن أجدادهم وجداتهم. في هذا يبدو خروجهم أوديبيّاً ساخراً: من أنفسهم وأدوارهم، من خروجهم نفسه، ومن الذي خرجوا منه وعليه، أي ذلك التراث الذي فروا من سجنه خِفافاً، حاملين في جوارحهم أغانيه وإيقاعاته وأشكال أدائه، كإطار يشبه الإطار الفارغ المعلق على الشاهدة خلفهم.


إنهم ورثة هزليون للتراث الموسيقي والغنائي الشرقي، وخصوصاً المصري. قد يكون رائدهم في هذا الشيخ إمام وقرينه أحمد فؤاد نجم، ومغني أو مؤدي الطقاطيق من المصريين القدامى، المجهولين إلا لأمثالهم ولمن قادهم إليهم افتتانهم بشيوخ الطرب الهزلي والمارق القديم: أولئك المتحدرون من مقرئي المآتم والمقابر العميان غالباً، ومن مجوّدي القرآن الكريم، ومن النسوة "العالمات" اللواتي يحيين الأفراح والأعراس والموالد وحفلات الزار، ومن الدراويش المدّاحين الدوّارين في الشوارع والحارات. وهذا كله ليس سوى تراثٍ شعبي مصري، بامتياز، ينهل منه وتتلمذ عليه أعضاء فرقة "الراحل الكبير"، الذين تبدو صلتهم به رَحمية، وخصوصاً في صوت مغني الفرقة الوحيد، صاحب الصوت الطربي، خامةً وأداءً، نعيم الأسمر، الذي يحوّل وقار الطرب في أدائه المتمكن، مقاماً هزلياً خالصاً، فيغادر الطرب في صوته إرثَهُ وأدواره وسلطنته الوقورة، الى حداثة معاصرة، قدر إطرابها المستمع تخرجه من الطرب وسلطانه، وتطلق ذائقته الفكاهية الساخرة.

الشبان الاربعة الباقون من "الراحل الكبير"، هم عازفون ومؤدو كورس. كلمات الاغاني، بل الطقاطيق، مستلة من ظواهر الحياة اليومية وحوادثها الراهنة الساخنة في لبنان والبلدان العربية. لكن التراث الغنائي والموسيقي اللبناني لا حضور له قط في اعمال "الراحل الكبير". فذلك التراث، وخصوصاً الرحباني - الفيروزي، تخصص زياد الرحباني في السخرية منه، سخريةً أوديبية أيضاً، طوال مسيرته الفنية التي استغرقت في إرث والديه، استلهاماً وتكسيراً لحنياً وأدائياً، وفي تحطيم كلمات أغاني ذلك الإرث، حتى العياء التعبيري.

كأن كلمات الرحباني الإبن لا تريد أن تقول شيئاً، أو تقول الفراغ واللاشيء تقريباً، وغالباً السأم والتعب والإرهاق، انتقاما من أبيه وأمه. هذا فيما ألحانه، رغم شرقيتها، تعتمد توزيعاً وأداء موسيقياً غربيين. وفي هذا المعنى تبدو تجربة زياد الرحباني وذائقته الفنية حاضرتين في تجربة "الراحل الكبير" التي تبدأ أمسياتها في "مترو المدينة" بإحدى أجمل أغاني الشيخ إمام، لكن في أداء وتوزيع جديدين. وإذ تعرّج الفرقة، الذائقة المصرية ذاتها، على لبنان، فإنها تروح تسخر سخرية لاذعة من اللبنانيين الذين يدمنون الكلام بالفرنسية في حياتهم اليومية.

أبو بكر البغدادي و"دولته" و"خلافته" في العراق والشام، لهم محطاتهم في برنامج "الراحل الكبير": "مدد، مدد يا سيدي، يا ابو بكر البغدادي، مدد"، تناديه الفرقة على إيقاع حفلات الموالد وأداء أناشيدها الصوفية، فيما يروح الساهرون في صالة المسرح الصغير يتمايلون مع كؤوسهم في جو يماثل أجواء السهر في كاباريه.

في جرود بريتال، البلدة البقاعية الحدودية، نشبت، الأحد الماضي، ثاني أيام عيد الأضحى، معركة دامية بين "حزب الله" و"جبهة النصرة" - شقيقة "داعش" اللدود، فيما قررت "الراحل الكبير"، بسبب الإقبال على أمسياتها الساخرة، تجديد هذه الأمسيات لأربع مرات في شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري. هذا بينما تشيع في لبنان مخاوف من سيناريوهات "عرسالية" وأخرى موصلية (نسبة الى الموصل العراقية).

هل يبقى لبنان صامداً على حافة المعمعة المشرقية الدامية؟

و"الراحل الكبير".. ماذا في وسع سخريتها السوداء أن تفعل في وجه الهوة المشرقية، وفي وجه"رجال الله" المتحصّنين المتترّسين بالمجتمع اللبناني، والآخرين التائهين في الصحراء؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها