الخميس 2014/08/21

آخر تحديث: 14:15 (بيروت)

للكيماوي صوت ولون

الخميس 2014/08/21
للكيماوي صوت ولون
الضحايا ما زالوا أرقاماً وكتلة ممددة على الأرض (غيتي/ أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

تتسع حدقة العين. تطفو على البياض كأنها تقبض عليه. يضيق التنفس. القفص الصدري يصبح كتلة ثقيلة يتسرّب الهواء إليها بطيئاً، شاقّاً. الأسنان تتكتك. يسمع صوت اصطكاكها ممزوجاً بأنين خفيف أو محاولة بكاء عابثة. قشعريرة تدبّ في أعضاء الجسم، كل الأعضاء. حتى المعدة ترتجف في البطن. الكبد والكليتان. الناس تسمع الصوت. تراه. تشمّه. لصوت الكيماوي رائحة ولون.

يقول الطفل إن عائلته سمعت صوت طائرة، فهبّت راكضة إلى الطابق العلوي حيث يسكن جدّه لينزل إليهم، ثم ليموتوا مع بعضهم بعضاً، إلى جانب بعضهم بعضاً، لينظروا في أعين بعضهم بعضاً أثناء رحيلهم الأخير. يتعانقون بالأعين، بحدقة العين التي تتسع وتطفو على البياض كأنها تقبض عليه.

الطفل كان جالساً على الكنبة في الصالون، متكتلاً على نفسه، رافعاً ساقيه، يضمّهما إلى جسمه ويحيطهما بيديه الصغيرتين. الطفل مازال متكتلاً على نفسه حتى اليوم، وحيداً في زاوية غرفة من الغرف، في مكان من الأمكنة. يقول إن أخاه اشتمّ رائحة الصوت أثناء صعوده الدرج، وإنه لم يكمل خطواته، عاد إلى البيت فلحق به أبوه وأمه وأخته. كلّهم شمّوا رائحة الصوت. صار أخوه يركض في البيت بلا وجهة محدّدة. والطفل ما زال متكتلاً على نفسه، يراقب ويبكي. أخوه راح يتقيأ ويتقياً ويتقياً. تقيأ روحه وسقط على الأرض ومات. ثم سقطت أمه وأبوه وأخته. هو لا يعرف ماذا حدث بعد ذلك ويقول إنه يجهل تماماً كيف وصل إلى هذا المكان الذي يشبه الملجأ. لم يفقد الوعي ولم يصبه دوار لأنه اكتفى بسماع الصوت ولم يشمّه. نجا هو وماتت عائلته بأكملها.

عائلة الطفل السوري المتكوّم على نفسه، مثل أي عائلة في أي رقعة من العالم، تتكون من أم وأب وأخ وأخت وجدّ. أربعة أفراد سوريين ماتوا من بين 1450 آخرين شمّوا رائحة صوت الصواريخ المحمّلة بغازي السارين والخردل القاتلين.

قبل تسعة أشهر، التقيت في منطقة البقاع بامرأة بلا ملامح. تحمل طفلاً يبلغ من العمر سنة ونصف. كانت قبل الكيماوي أمّاً لتوأم. وبعده باتت أمّاً لطفل واحد، لا تعرف أين نصفه الآخر. هربت تحت قصف الغوطتين. اعتقدت أنها تحمل طفليها. هي معتادة على حمل طفل بيدها اليمنى وآخر بيدها اليسرى. شمّت الرائحة، كتمت أنفاسها، لا بدّ أن شللاً ما أصاب يدها اليسرى فلم تدرِ أنها تركت ابنها الآخر. هي لا تعرف مكانه، حتى الآن. ولا تزال عيناها شاردتين، وحدقتاها تبتلعان الفراغ الذي يغلّف وجهها.

سنة مرّت على قصف النظام السوري للغوطتين الشرقية والغربية بالكيماوي. سنة مرّت، وضحايا الكيماوي، باتوا منسيين. رمت الولايات المتحدة جثثهم في عرض البحر. سفينة أميركية مجهزة تجهيزاً خاصاُ "حيّدت" 600 طن من مكونات الأسلحة الكيماوية بالكامل في عرض البحر المتوسط. السفينة ستسافر خلال أسبوعين إلى فنلندا وألمانيا لتفريغ حمولتها من عملية "التحييد". هناك، في عرض البحر، سترمي السفينة جثث الضحايا المنسيين، بكل أناقة، وربما تصاحب العملية طقوس احتفالية بمرور الذكرى السنوية الأولى للكيماوي. النظام سلّم السلاح الكيماوي. لم يسلّمه قبل الاستخدام بل بعده. واشنطن رحبّت بتحفظ! معها حق. إذ لا ضمانات بالتزام النظام تعهداته في هذا الشأن. إلا أنه فاجأهم خلال الأشهر الـ12 التي تلت الكيماوي، إذ استعاض عنه بالكلور و"البراميل". سلّم سلاحه وانتهت القضية. سلّمه وأجرى انتخابات "نزيهة" وفاز بها. الكيماوي "خط أحمر". وأي غازات أخرى لا تزنّرها الخطوط.

سكّين "داعش"، ترعب النفوس وتفعل في المتفرّج فعل الكيماوي بضحاياه. سكّين "داعش" الحادة التي تلتمع فوق رقبة الضحية، أرعبت العالم أكثر بكثير من الكيماوي! وأكثر من "البراميل" والصواريخ والقذائف والقنص والتعذيب والكلور والقنابل المغناطيسية. لأن حاملها إسلامي ومتطرّف وإرهابي. أما قائد الطائرات فعلماني والقنّاص يعود إلى بيته ويشرب كأس نبيذ أو ويسكي ومن يمارس على معتقليه تعذيباً جسدياً، زوجته سافرة. كلنا نخاف من سكين "داعش". إلا أن مسألة الخوف تلك، تستدعي تأملاً نفسياً ربما. ما الذي يجعل السكين أكثر إيلاماً من الكيماوي؟ ما الذي يدفع المجتمع الدولي للصراخ في وجه "داعش" والتفرّج بصمت على "سكاكين" النظام السوري الذي تفنّن خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية، بإشهارها. لو أن صحافياً أميركياً كان صدفة في الغوطة قبل عام، واستنشق الكيماوي ومات اختناقاً، هل كان سيستفزّ العالم كما حدث البارحة أمام مشهد الصحافي الأميركي بلباسه البرتقالي وسكين "داعش" على رقبته؟

عام على الكيماوي. ثلاثة أعوام ونيف على حرب طاحنة يقودها النظام السوري ضد شعبه. والمعارضة السورية ممثلة بـ"الائتلاف الوطني" تلوم الولايات المتحدة الأميركية كما أفعل أنا الآن. المعارضة التي لم تفعل خلال تلك السنوات الثلاث سوى اللوم والشكوى كأنها مجرد صحافية أو كاتبة مقال! والطفل الذي ماتت عائلته أمام عينيه، لايزال متكوّماً على نفسه. والأم الثكلى تحدّق في الفراغ. والنظام السوري أعيد "انتخابه". وسكين "داعش" تجزّ في الأذن قبل العين. وضحايا الكيماوي، ليسوا سوى أرقام وكتلة واحدة ممددة على الأرض، مقسمة إلى أجساد ملفوفة بالأبيض كالشرنقة.  

increase حجم الخط decrease