الثلاثاء 2015/11/24

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

الباليه المصري بين قفزات ناصرية وأرض رافضة للحداثة

الثلاثاء 2015/11/24
increase حجم الخط decrease
تعلُّم الرقص يبدو نشاطاً بريئاً للوهلة الأولى، إذ تخبر مروة أرسانيوس، الفنانة والباحثة اللبنانية، أنّها أرادت مراقبة راقصين لتتعلم منهم أداء حركات جسديّة جديدة، هي التي لا تعرف إلّا نوعاً من الرقص السهل بتحريك وسطها وذراعيها. ولكن ما يتأتّى من وراء هذا الطرح البسيط هي عملية بحث عميقة في العلاقة بين الجسد وذاكرته والكيان الشامل لأمة تبحث عن فهم أيديولوجي جامع لمكانها السياسي في العالم ولمسيرة التاريخ.


من خلال دراسة عملية تطويع العضلات وإعادة برمجتها لتأدية حركات القفز والهبوط والغوص في جوانب تقنية لتفكيك ما يحدث عندما يتحرّك الجسد، تضعنا أرسانيوس في مواجهة مسائل لطالما تخبّط حولها العالم العربي. ففي عرضها الأدائي، "تعلّم الرقص"، الذي أنتجته الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية - "أشكال ألوان"، ضمن "منتدى أشغال داخلية 7"، تدفعنا أرسانيوس إلى إعادة النظر من زوايا جديدة وفريدة في المشروع النهضوي لعبدالناصر بتسليط الضوء على مشروع إنشاء معهد للباليه في القاهرة في الستينات. وانطلاقاً من مقال وصور من مجلة "الهلال" حول المعهد نُشرت في العام 1963، تتحدث أرسانيوس عن عملية تطويع الجسد بغية تحديثه ليتلاءم حينها مع النظرة التفاؤلية والتقدّمية الجديدة للمجتمع المصري والعربي عموماً. فالجسد القوي الذي يستطيع القفز بعنفوان وبتحدٍ لعملية الجاذبية كان بمثابة رمز لأمة بأكملها، متينة وصلبة وتتوق إلى الإنطلاق نحو الأعلى. وقد أتى عنوان المقال، "مصنع لأجساد جديدة"، والذي ركّزت عليه أرسانيوس في بحثها، ليقترح من جهة أنّ الزمن العربي ما بعد الحقبة الكولونيالية، يتأتّى عنه قطيعة مع أجساد الماضي وفلسفتها الخاصة بالحركة ومن جهة أخرى أنّه ولخلق الأجساد الجديدة يجب تأسيس منظومة كاملة للتعليم وفرض الإنضباط وإعادة البرمجة.

وطبعاً ما لا تقوله أرسانيوس مباشرةً، لكننا نعرفه جميعاً، أنّ تلك العملية التصحيحية أو الحداثوية وكأي عملية خلق جديد تأتي نتيجة مخاض أليم وعنيف. وهنا ليس مصادفةً ربما أنّ تختار أرسانيوس، في حديثها عن الفكر الناصري، الباليه، وهو نوع من الرقص يتطلّب مجهوداً جبّاراً في تطويع عضلات الجسد ويتبع تقنيات شديدة في الدقّة لا يمكن الخروج عنها. والباليه من أكثر النشاطات التي تتطلب الإلتزام والإنضباط وهي طبعاً من أهم أعمدة الفكر الجديد (وهنا ليس مستغرباً مثلاً أن يرتبط الباليه بموسكو الإتحاد السوفياتي). وإن كانت مراقبة الرقص بمعنى المشاهدة والتأمل هو ما يرتكز عليه العرض، فلا يسعنا إلّا التفكير بالعودة إلى الحقبات النهضوية بنوع آخر من المُراقبة التي تبغي السيطرة. ومع المُراقبة تأتي المُعاقبة (مفاهيم شرّحها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو) فلتطويع الجسد وتأديبه يمكن أن نتخيّل العنف الذي يُمارسه الراقص على جسده.

طبعاً النظرة العامة اختلفت بعد هزيمة العام 1967، وهو ما ترجمته رمزياً أرسانيوس بدراسة أطروحة كتبتها راقصة الباليه ماجدة صالح في العام 1977 حول الرقص الإثني (العبارة بحدّ ذاتها غريبة عن قاموس الفكر القومي) في محاولة لحفظ ما تبقى من تراث الرقص الفولكلوري في جنوب مصر والذي لم تطمسه بعد الفيضانات المتأتّية عن بحيرة ناصر الإصطناعية. عملية صالح في إعادة التفكير بالخصر وليس العمود الفقري كنقطة الوسط والمحرّك للجسد والتي ارتبطت بالعودة إلى الأرض وجاذبيتها كعامل يعيد التوازن النفسي والفكري والجسدي إلى الإنسان العربي، يندرج في إطار النوستالجيا نحو الماضي ولملمة بقايا التراث بعد فشل المشروع النهضوي. فهل ذاكرة الجسد تحفظ لا إرادّياً ما محته سنوات من الأدلّجة الفكرية؟

ارتباط الرقص بالأنثروبولوجيا ومحاولة فهم الثقافات الإثنية وثيقة، وهنا تتبادر إلى الأذهان أعمال عالم الأنثروبولوجيا والمخرج جان روش. وتبدو أرسانيوس على إدراك تام لعدم براءة عملية النظر، نظر أي باحث أو حتّى مجرد مشاهد للرقص وبالتالي لنتاج ثقافي وإرثي. فبين القفز نحو الأعلى كجوهر الحلم الناصري والتشبّث بالأرض كرفض للحداثة ونتائجها، تأتي تساؤلات أرسانيوس في محلّها في محاولة لتعبئة عبثية فراغ المرحلة الجديدة. فبعد محو معالم الماضي ثم نبش ما تبقى منه ما هي الخطوة (الكوريغرافية) التالية؟ لا تبوح أرسانيوس للمشاهد ما إذا كانت قد استطاعت فعلاً تعلّم حركات رقصّ جديدة بعد عملية التأمّل لأجساد الراقصين التي قامت بها.    

هذا العمل هو معالجة لعمل فيديو، "مدونات أولغا، كل هذه الأجساد المتململة"، والذي قامت به أرسانيوس العام الماضي ويرتكز على تأمّل أجساد الراقصين من خلال دراسة سياسات التعلّم والتدريب. وقد سبق أيضاً لها في أعمال أخرى أن مزجت البحث في الأرشيف والتوثيق بالأداء الحيّ والمصوّر كطريقة لربط عملية التفكير حول الماضي المشترك والتعمّق بالتاريخ الحديث بما هو حميم وشخصّي وآنيّ.      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها