الأربعاء 2014/08/27

آخر تحديث: 14:21 (بيروت)

محمود الزيباوي: "أيقوني" لا يصلّي.. لولا "كريزة" الإيمان

الأربعاء 2014/08/27
increase حجم الخط decrease

 محمود الزيباوي باحث وفنان لديه شغف ووله بالأيقونات والمنمنمات وفن الزمن الجميل، يواظب على كتابة مقاله الأسبوعي حول أمور تراثية وفنية وبصرية، ويستعد لإصدار مجموعة من الكتب تؤرخ بشكل توثيقي للفنون والبصريات في العالم العربي والإسلامي، وكان لـ"المدن" معه هذا الحوار..

- كيف بدأت علاقتك بالأيقونات الدينية وكيف انعكست على شخصيتك وحياتك وهويتك وحتى لوحاتك التشكيلية، اذ أصبحت "أيقونياً" بمعنى من المعاني؟

* الأيقونات تلاحقني بشكل عجيب لا أفهمه، مع أني أصدرت كتاباً واحداً عنها ومن بعده أصدرت ستة كتب عن الرسم المسيحي وليس عن الأيقونات. والحقيقة أن علاقتي بهذا الفن بدأت كإعجاب وولع في البداية، ثم تحولت إلى اختصاص.

كيف بدأ هذا الإعجاب من أي مكان، هل من منزلك العائلي أم من تربيتك؟

* إعجابي بالأيقونات يتبع اهتماماتي الشخصية ولا علاقة له ببيتي وبيئتي، هو نتاج حبي للفن والتشكيل، أولاً وأخيراً وليس لأمر آخر.

عموماً من يهتم بهذا النوع من الفن، يجعل المرء يظن أنه آت من الكنيسة أو من الدير أو متدين...؟

* ليس الأمر بهذه البساطة والتبسيط، الأيقونات فن، مثل السجاد والسبحات، لا أحد يفهمه إلا من يتخصص فيه.

- نعود الى السؤال الأول، كيف بدأ مسار علاقتك بالأيقونات؟

* أولاً إعجابي به كفن، وليس ضرورياً أن يكون المرء كنسياً لكي يهتم بالأيقونات. كنت أفضّل فنون إيطاليا - القرن الثاني عشر والثالث عشر، على فنون النهضة. أحب هذه المرحلة التي ذكرتها جمالياً، وهي على الطريقة اليونانية، وأحب بعض الفنون التي سبقتها وتشبهها وفيها الخلاصة نفسها، ولدي شغف بالهلنستية الشرقية مثل تدمر، ووجوه الفيوم. وإذا أردت أن أتحدث عن "الأنا"، وعادة ما اتجنب هذا الأمر، أقول إن الفن جعلني أتعرف الى الدين بعمق. لقد تعلمت في المدرسة اليسوعية، وتعرف إلى المسيحية كدين، لكني لم أكن أعرف المسيحية البيزنطية، لأن فن اليسوعيين هو فن الباروك اللاتيني، المناقض كلياً للفن الذي أحبه، الأمر الآخر أني تربيت على الثقافة العربية التراثية وليس اللبنانية، بسبب المناخ العائلي الذي نشأت فيه.

- هذا يظهر من خلال كتاباتك الصحافية...

* نعم، لم أقرأ الثقافة اللبنانية والأدب اللبناني إلا في وقت متأخر، وفي المدرسة تعرضت للقصاص أكثر من مرة لأني كنت أقرأ كتباً ليست لعمري، عربياً وفرنسياً. أتذكر أنه كان لدي ولَه بأعمال الكاتب المصري توفيق الحكيم، ولم أكن وصلت إلى البريفيه (الشهادة المتوسطة). قرأته في عمر المراهقة إلى جانب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، والأنكى أني قرأت جان بول سارتر وألبير كامو في هذا العمر أيضاً، حين وجدت معي المعلمة كتاباً من هذه القبيل صعقت وظنّت أن هناك من يساعدني على القراءة، وبدأت تطرح عليّ أسئلة كثيرة، وفي اليوم الثاني أتت لي بكتاب تحسب أنه يناسب عمري أكثر من الكتب التي كانت بحوزتي.
وفي موازاة ذلك، كنت أقرأ مجلات "روز اليوسف" و"صباح الخير" و"ميكي" و"سمير". أحفظ مشهدهم وتحضر صورهم في ذاكرتي وأستطيع أن أصفهم لك كأنهم أمامي الآن، بمعنى آخر تربّيت على ثقافة عربية - مصرية وفرنسية وليس لبنانية.

-هذا أيضاً يظهر من خلال كتاباتك الأسبوعية، اذ تهتم بالتراث والفن في الزمن الجميل، ربما أكثر ما يحضر من لبنان في كتاباتك هو فيروز؟

* لا أعتبر فيروز لبنانية بالمعنى الفني، وهذا ما أحاول إثباته من خلال بعض كتاباتي.

- دائما تكتب عن "فيروز المصرية" و"السورية"...

* فيروز تمثل ثالوثاً لبنانياً، فلسطينياً وسورياً، أو مشرقية بالمعنى الأشمل للكلمة، لقد عرف الرحبانيان، خصوصاً عاصي، توظيف هذا الشيء، وقصة فيروز "المحض لبنانية" هي نتاج بعض اليساريين (المسيحيين) في السبعينات، كانوا يريدون ربطها بالثقافة اللبنانية وميشال شيحا، وأخص بالذكر هنا الياس خوري الذي لم يتوقف عن هذا الأمر إلا حديثاً، وفواز طرابلسي في كتابه "فيروز والرحابنة"... ربما الآن تغيروا، لكني حين كنت أعرفهم في الثمانينات لم يكن موقفهم مثل اليوم.

الاهتمام بالفنون الدينية هل جعلك مؤمناً؟

* لم أكن مؤمناً، لكن مررت بـ"كريزة" إيمان خاصة.

- هل هو إيمان ديني أم شخصي؟

* إيمان شخصي، على طريقة ديستويفسكي، الذي أضع صورته في مكتبتي الى جانب الفيلسوف الروسي نيقولا بردياييف الذي يقول إن البشرية نوعان: الديستويفسكيون وغير الديستويفسكيين.

- هل صليت في حياتك؟

* لم أصلِّ يوماً صلاة تقليدية.

هل كنت تصلي صلاة نفسية؟

* هذا الأمر عشته، بين 1987 و1992 أما الآن فلا أصلّي أبدأ.

ما سبب ذلك؟

* لا أعرف كيف أفسر ما حصل، ما يمكنني قوله إن هذا الإيمان الشخصي لم يقدم لي السكينة أو الراحة، بل على العكس، وعلى طريقة ديستويفسكي الذي يقول "إن الله عذبني - أرهبني طوال حياتي".

كيف ينظر لك الآخرون، انطلاقا من اهتمامك بالايقونة؟

* أعتبر أن ربط ثقافتي بالأيقونة يحدّني، لكن الآخرين يفتخرون بي.

الكنيسة هل تفتخر بك؟

* نعم، والمسلمون أيضاً يقولون مثلما أن للمسيحيين اسلامولوغ لدينا كريستيانولوغ.

- برأيك، ما سبب غياب الأيقونة في الإسلام؟

* لا غياب للأيقونة في الإسلام، وقد أثبت هذا الأمر في أكثر من موضع، وفن الصورة لم يغب يوماً عن المجتمع الإسلامي، لكنه غير مقدس كما عند المسيحيين، وهنا الفرق. سأصدر كتاباً عن الفن المدني في الإسلام يبيّن ما أقصد، نحن ننسى أن الإسلام ليس عربياً فحسب، العرب هم 20 في المئة من المسلمين، نتحدث عن غياب الأيقونة لدى المسلمين العرب وننسى أنها منتشرة لدى الإسلام التركي والفارسي والهندي.
 
يقولون عن العرب إنهم الإسلام الرسمي؟

* هذه بدعة. علينا ألا نخلط بين السياسة والدين. إذا كان هناك صراع بين العرب والفرس الآن، فعلينا ألا ننفي حضارة الفرس وحضارة الترك، والإسلام متعدد الوجوهز حتى إن هناك قوم كانوا مُدمِّرين لكنهم، حين أسلموا وتأثروا بالحضارة التي غلبوها، أعطوا فنوناً رائعة، المغول على رأس هذه القائمة.

- الى أي مدى تأثرت في أعمالك التشكيلية بـ"وجوه الفيّوم" المصرية؟

* وجوه الفيّوم ليست مسيحية، لكنها تتضمن المنطق نفسه، هي فن جنائزي بامتياز. توضع وجوه الفيوم فوق القبور، والميت في الوجوه لا تجده عجوزاً فهو دائماً شاب ويافع... كانوا يرسمونه في أيام شبابه قبل موته، يكملونه بعد موته في حالة اللافساد، في حالة كيف سيكون في العالم الآخر، هذه الثنائية هي التي تجذبني إلى هذا الفن، وموجودة في الدين المسيحي، بولس الرسول كان يتحدث عن الإنسان الترابي والإنسان السماوي، الإنسان الذي ولد من تراب والإنسان الذي ولد من روح، وهناك نفس الولَه والشغف في أن تصل إلى وجه سماوي.

- ما الرابط بين "وجوه الفيّوم" والأيقونات المسيحية والمنمنمات الإسلامية؟

* أعتقد أن الفنون لا ينفصل بعضها عن بعض، الفن الأموي مثلاً هو أقرب إلى الهلنستي الروماني، إفتح أي كتاب عن الفسيفساء الرومانية، وستجد مصادر المسجد الأموي ومسجد قبة الصخرة فيها، لأن هذا آخر تجليات هذا الفن، وستجد انتشار الفسيفساء، حتى تصل إلى العهد العباسي، وهذا نتاج التواصل الاستمرارية، بعدها ستجد أسلوباً جديداً يمكن تسميته بالإسلامي. والرابط بين الفنون التي ذكرتها هو عالم المُثُل، إذ استعملنا اللغة الأفلاطونية، ما يعني عالماً لا ينقل الواقع كما هو، لكنه ينقله في حالة من التجلي، وهذا موجود في الأيقونات وفي المنمنمات. يستند إلى أنه لا بُعدَ ثالثاً، ولا بُعدَ واحداً أيضاً، هو في منزلة بَين ما بَين، هناك تصوير واقعي، لكن هذا التصوير يبقى على منطق حائر وليس منطقاً لعَين، دائماً هناك رغبة في الوصول الى عالم روحاني وليس العالم الارضيّ.

- هل كتبت الشعر في حياتك؟

* في بداياتي الثقافية، لكن بشكل محدود جداً، لم أعد أهتم بالشعر، رغم اطلاعي الواسع على الشعر الفرنسي والشعر التراثي، الصوفي تحديداً. الآن لم أعد أقرأ شعراً الا الذي أحبه كثيراً وأحفظه.

- هل أدخلت الشِّعر في الرسم؟

* كثيراً.

- التصوف؟ أم نوع آخر من الشِّعر؟

* كل الشِّعر.. عندما يسألونني: على أي مذهب أنت؟ أقول لهم: "ريلكاوي"، على مذهب الشاعر النمساوي رانيا ماريا ريلكة.. كما يقولون هناك "طرق صوفية"، أنا على طريقة ريلكة. أجد نفسي قريباً منه، وكان لديه شغف بمسيحيته وإسلاميته وحديثه عن المباشرة بين الله والكائن... وذات مرة، كنت أعرض بعض أعمالي، فقال لي الوزير السابق طارق متري إن لديه مشكلة مع هذا النوع من الفنون، لأنها لا تتضمن، بحسب تعبيره، عمقاً سياسياً أو عمقاً تاريخياً أو اجتماعياً، أنا كنت أحب الفن على هذا النحو، وأحب الشعراء الذين لديهم هذا المناخ.

هل لديك شغف بـ "أيقونة الصوت"؟

* أحب الطرب كثيراً.

هل ينعكس الصوت في الأيقونات الفنية؟

* لا، الطرب شغف قائم بذاته، لكني لا أعرف أثره. لو سألتني قبل عشر سنوات: هل أحب الطرب؟ لقلت لك: لا... لكن الآن، الطرب لديّ من أجمل الفنون، حتى أني أحبه أكثر من مهنتي.

- الذين تكتب عنهم، معظمهم أصبح من "الزمن الجميل"؟

* أحاول ان أبحث عن الجديد وأجد بعض الأصوات، لكن المشكلة الآن في غياب الألحان، عادة يقولون أن قوام الأغنية هو لحن وكلمة وصوت، الآن أقول إن المشكلة في الألحان، مع أنه ثمة أصوات جميلة جداً.

- ما مشاريعك المستقبلية؟

* أكتب أسبوعياً منذ مطلع العام 2003، ومقالاتي قلما تكون كتابات صحافية. أنا اليوم أصنّف هذه المقالات بحسب مواضيعها، قبل الحديث عن نشرها. هناك سلسلة تتعلق بالفنون الإسلامية "الدنيوية"، أي العلمانية إذا شئت. وهناك سلسلة أخرى تتعلق بقصص الأنبياء التي وجدت ترجمتها التشكيلية في منمنمات تشكل، في رأيي المتواضع، تقليداً أيقونوغرافياً إسلامياً بكل معنى الكلمة. من جانب آخر، عمدت، في بدء عملي في "الملحق"، على التعريف بعدد كبير من النواويس وألواح الفسيفساء المحفوظة في متحف بيروت الوطني، وخصصت لكل قطعة من القطع مقالاً مستقلاً، ومشروعي جمع هذه المقالات في كتابين مستقلين: كتاب مخصص للنواويس، وآخر مخصص للفسيفساء. في الخلاصة، أمامي أربعة كتب شبه جاهزة. بعدها، سأنتقل إلى مجموعة المقالات الخاصة بالشعر الفارسي والتراث التشكيلي الخاص به، أي المنمنمات التي صوّرته وجعلت منه تقليداً إيقونوغرافياً له مقوماته الخاصة. هناك مجموعات أخرى في بالي، غير أني أفضل ألا أتحدث عنها اليوم.  

increase حجم الخط decrease