الثلاثاء 2015/09/01

آخر تحديث: 13:44 (بيروت)

خطاب الركوع وخطاب الابتذال

الثلاثاء 2015/09/01
increase حجم الخط decrease
برزت أخيراً على الساحة السياسية والمدنية في لبنان، زوبعة من اللغويات والخطابات المتناقضة، تتسم بالكثير من المغالاة والسوقية والتقديس والازدراء والادعاء والفذلكة والهايد باركية وجنون العظمة والاسترقاق. تجلت الزوبعة بين "انتخابات" التيار العوني - الباسيلي، ومهرجان تغييب الإمام موسى الصدر في النبطية، وفي تظاهرات حراك المجتمع المدني في ساحتي رياض الصلح والشهداء. لا شيء يجمع بين المشاهد الثلاثة، فكل فريق في اتجاه، لكن اذ تأملنا في براثن اللغة المستعملة، ربما نستنبط بعض أحوال لبنان وساسته وأجياله وآفاته وتدحرج ثقافته السياسية نحو مزيد من الحضيض والترهل...

بدت مشهدية الوزير جبران باسيل في "انتخابات" التيار الوطني الحر، أشبه بثقافة البعث السوري، اذ أسقط الصهر كل شيء في التيار الوطني الحر لمصلحته. أزاح في البداية "الحكماء" بعد الصراعات على التوزير، ثم أسقط الأقرباء (بالتعاون مع الجنرال) بعد "منافسات" على رئاسة التيار أجهضت قبل الآوان. ألغيت الانتخابات من اجل توريثه بحجة تفادي انقسام الحزب العوني، وكانت "صدمة" الرأي العام في خطاب العبودية: "نركع أمامك لتباركنا "... والركوع عند المسيحيين بحسب أحدهم هو فقط في حالات الصلاة والتضرع للخالق وليس لاستدرار عطفٍ أو لاستمالة زعيم. وحمل خطاب الركوع الباسيلي الكثير من التأويلات والسخرية والتهكم والاستهجان، وترافق مع أنباء عن فصل بعض الناشطين من المعترضين على التوريث وإلغاء الانتخابات.




وتكلل المشهد العوني بالنشيد المنتشر الذي نسب الى التيار وفيه يجري تمجيد الوزير الرئيس، كأن التيار مجرد شخص يرى نفسه في المرايا ويشبه زعيم كوريا الشمالية.. لم يؤكد التيار أو ينفي نشيده الصادم، مع التذكير أن الجمهور العوني، كان ينظر الى عون نظرة تقدسه ايضاً. فبعد المهرجانات الحماسية التي كانت تعقد في القصر الجمهوري في بعبدا، صار الرجل موضع طقوس وعبادة جدية تصوره ملصقات ضخمة على شاكلة القديس جاورجيوس يصرع التنّين، وتعلن صحيفة "ليفي" (اليقظة) الناطقة باسمه آنذاك "أن الشعب ولد مذ ستين يوماً فقط (أي منذ بدأ جمهوره يلتف حول عون). في السنوات الآخيرة، صار بعضهم يعتبر عون نابليون العصر، بالنسبة الى جبران باسيل، ربما ولد التيار الوطني يوم أصبح رئيسه.

***

في شارع حركة "أمل"، هناك استمرار للزجل الميليشياوي، ربما تكون أمل الحزب اللبناني الأكثر اندفاعا لتعليق الرايات وصور الرئيس بري مرفقة بعبارات لها "خصوصيتها الحزبية" والجنوبية، كنا نقرأ عبارات "يا ويلنا من بعدك يا دولة الرئيس"، و"نبيه بري لولا الهاء لكان نبيا"، الان ذهب غلاته الى الكتابة على قمصان التي - شيرت "بهاء أو بلا هاء نحن شايفينك نبي"... كأن الذي كتبها، يرد شفهيا على "النكتة" السابقة...

والأمليون في ذلك، ربما يبحثون عن جديد يقولونه، يصبح حديث الناس، طوروا النكتة نحو مزيد من "التحدي" اللفظي، فلعبة الاسم تغويهم أكثر من سياسة حركة أمل ومواقفها وتحالفاتها ونظامها الداخلي، يكتب أحد مناصري الرئيس على لافتة ضخمة في طريق خلدة "نبية بري الاسم يكفي"، وغالبا ما تقتصر سياسة الرئيس بري على صورته مع عبارات لافتة "متل "الاستيذ" او "يا ويلكم اذ نفد صبره"، مع الانقسام السياسي في لبنان، يزداد هوس اللافتات، وتعبير الضمانة وحامل الآمانة... لا أعرف إن كان هناك من جامع سياسي بين عبارة "نركع" الباسيلية، وجملة "شايفينك نبي" الأملية، في الواقع تميل الأحزاب في لبنان، كذلك الجماعات والميليشيات اللبنانية، إلى أيقنة قادتها بطريقة "مفرطة" على حد تعبير الكاتب الألماني تيودور هانف، إذ إن ملامح السلطة والزعامة تبرز عبر الصور والرسوم الكثيرة للزعماء أكثر ممّا تبرز عبر البيارق أو الأزياء الموحّدة. والولاء السياسي هو ولاء لأشخاص بدرجة أولى أو للمنظمات أو البرامج بدرجة ثانية.

***

المجتمع المدني الغاضب الآتي من أوجاع لبنانية متناقضة ومتشابكة، بدا في تظاهرته (باستثناءات البعض) أنه خارج منطق الزعامات والتجييش والتقديس، طفح الكيل بالنسبة له ونزل غاضباً، لم يتم دفعه الى الساحات حتى لا نقول "سوقه" كما يحصل في الكثير من التظاهرات. بدا المجتمع المدني في ساحتي الشهداء ورياض الصلح "هايد بارك"، لعبارات مطلبية وثورجية شيوعية رتيبة (ع التغيير، غيفارا)، وكوميدية (بدنا بحر ببعلبك)، وغامضة مأسوية بعد الربيع العربي (الشعب يريد اسقاط النظام)، وساخطة رافضة (انا مانّي فدا صرماية حدا) رداً على ثقافة حزب الله القتالية والجهادية... اصطدم المجتمع المدني بالمقدس، في المرة الأولى بعد محاولته وضع صورة حسن نصرالله مع مجمل الزعماء اللبنانيين المتهمين بالفساد بحسب رأي المجتمع المدني، إذ حصل إشكال أثناء عرض المؤسسة اللبنانية للارسال حلقة من ساحة الشهداء، وفي المرة الثانية عندما حاول التيار العوني (المدافع عن جريدة شارلي إيبدو المتهمة بالإساءة لنبي الاسلام)، تكفير الناشط أسعد ذبيان بسبب بعض تعليقاته عن عيد الفصح...

في حراك المجتمع المدني، ربما المرة الأولى التي نشهد فيها (في لبنان) هذا النوع في اللافتات، كانت الكلمات "السوقية" حكراً على اللسان الشفهي ونادراً ما تكون مكتوبة على الورق، لكن في حراك المجتمع المدني ذهبت الأمور الى أقصاها، بتنا نقرأ عبارات "حلّلوا عن ..."، "روحوا ان...وا"، و"مش مزبوطة يحكمنا ولاد..."، هذا عدا عن استعمال ممثلة البورنو مايا خليفة كوسلة لشتم السياسيين. تظاهرة "كتير كول" في كلماتها لكنها في بوصلتها تبدو متعددة البوصلات، لم تتبلور وجهتها حتى الآن، الى درجة ان أحد الفسابكة شبّه المتظاهرة بمجموعة من المسافرين في المطار، كل شخص يذهب في اتجاه.

إذا المجتمع المدني ما زال مربكاً ومفككاً، لكنه يعبّر عن الواقع الاجتماعي بكافة اطيافه وألوانه، هم كتلة هشة غير متراصة، تحرك الرتابة لكن من الصعب أن تنتج حلولاً لمعضلات لبنان المستعصية، فالطوائف متفقة على الفساد وفي دمها الفساد، وإزاء هذا يكون صعباً إيجاد ارضية لأي مجتمع خارج القيد الطائفي...

ليس مستغرباً أن يغالي المجتمع المدني في استعمال لغة تزدري الطبقة السياسية، خصوصاً حين نتأمل كيف ان هذه الطبقة تصرح وكأنها تضحك على الناس، وحين نجد أن بعض النواب بلا ذاكرة. ففي لحظة كان أحد النواب يريد توظيف التظاهرات لمصلحة فريقه، علق عضويته في البرلمان احتجاجاً على القمع، وحين لم تصب التظاهرات لمصلحة سيده، اتهم الناشطين فيها بالمرتزقة والعمالة للسفارات.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها