الجمعة 2015/01/23

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

آلان تورينغ: البطل المهشّم

الجمعة 2015/01/23
آلان تورينغ: البطل المهشّم
توفي آلان تورينغ من وحدته وخزيه. ما أدّاه لأوروبا والعالم لم يغفر له خطيئة ميله الجنسي
increase حجم الخط decrease
الحقب الثلاث لحياة آلان تورينغ مقسّمة بالتساوي في فيلم The Imitation Game (لعبة المحاكاة) للمخرج مورتين تيلدم. لم يجر تتبع هذه الحياة خطياً أو على نحو متعاقب، فالفيلم أدخل هذه الحقب في ثنايا بعضها البعض. لا يلبث آلان تورينغ (أدى دوره بنديكت كامبرباتش) الفتى أن يعود ثانية بعدما ترك لسيرتي زمنيه التاليين، زمن الشباب والطموح الذي بلا حدّ وزمن الإحباط والإنكسار، أن يتعاقبا متداخلين هما أيضاً. قطْعُ التسلسل العادي للحياة، أو تقطيعها، هما ما صنع القوّة السردية للفيلم. فمع كلّ عودة إلى واحدة من حقب العمر الثلاث لتورينغ نبدو كأننا إزاء بداية جديدة للفيلم، مؤلّفة بالجهد الإخراجي الخاص الذي تطلّبه البداية عادة.

من ذلك مثلاً أنّ تورينغ الفتى فاجأنا في كل عودة إليه، وكذلك تفاجئنا العودة إليه منشغلاً باختراع تلك الآلة الضخمة التي ستفكّ شيفرة الجيوش الألمانية في زمن الحرب العالمية الثانية ذاك. الفيلم قسّم حياة بطله إلى ثلاث حقب إذن، متداخل بعضها ببعض، لكنه، مع ذلك، جعل لكل حقبة نهاية خاصّة بها. فالفتى تلميذ المدرسة يُختتم زمنه، أو تختتم مأساته، عند قول مدير المدرسة له أنّ رفيقه في الصفّ، بل "حبيبه" كما وصفه في رسالة سطّرها ليبعثها إليه، قد مات.

أما نهاية شبابه فيسمعها، هو وفريق العباقرة الذي يعمل معه، من القائد الألماني الذي كان مشرفا على عملهم. كان ذلك الإنجاز العلمي الهائل قد تحقّق باختراع تلك الآلة الضخمة، وانهزمت ألمانيا بسبب ما حقّقه ذلك الإختراع، وأمكن، كما كُتب في نهاية الفيلم، وضع حدّ للحرب قبل سنتين من احتمال استمرارها. قال المسؤول العسكري لتورينغ وفريقه: عليكم أن تنسوا كلّ شيء.. كل ما يتعلّق بهذه الآلة.. وأنتم الذين صنعتموها يجب أن تتفرّقوا وأن يلتزم كلّ منكم الصمت.. إلى الأبد.

ذاك لأنّ بريطانيا لم تشأ أن يعلن أن سبب انتصارها في الحرب عائد إلى تمكّن علمائها من فكّ شيفرة الجيش الألماني (الأنيغما)، إذ لا مجد في هكذا انتصار ولا عظمة. أما في ما يتعلّق بالشاب تورينغ ورفاقه فإن ما يصنع مجدهم، العلمي، سيظل حبيس تلك القاعة الشبيهة بالهنغارات أو المصانع المقامة على عجل. وفي ذلك النهاية المأسوية الثانية لمن كُتب عن اختراعه، في نهاية الفيلم أيضا، أنه النسخة الأولى الأساسية مما سيصير في ما بعد الكومبيوتر.

تورينغ في أربعيناته. من عمره ذاك يبدأ المشهد الأول في الفيلم، ومعه تقفل الستارة. في تلك السنوات الفاصلة عن الشباب سلك إحباط تورينغ وانكساره سبيلا آخر. إنه الآن في قاعة الإستجواب الملحقة بالسجن، أما التهمة فإقامته علاقات جنسية شاذةّ، وهذه ما أخفى الفيلم كل تفصيل عنها فلم نرَ وجها لعشيق ولا تلميحا غراميا من طبيعة مثلية. ليس في الفيلم إلا إقرار تورينغ لواحد من رفاقه، ولزوجته من ثم (أدّت دورها كيرا نايتلي)، التي كانت من ضمن فريقه العلمي. في هذا الطور من عمره بلغت مأساة تورينغ تمامها إذ انقطع عن العالم الخارجي كلّه، ولم تعد له صلة بشيء سوى بتلك الآلة التي أعاد بناءها في بيته، مستهلكة نصف مساحته.

في الواحدة والأربعين توفي آلان تورينغ من وحدته وخزيه. ما أدّاه لبلده بريطانيا ولأوروبا والعالم لم يغفر له الخطيئة المتمثّلة في ميله الجنسي. لم تكن محاكمته والإصرار على اتهامه ومعاقبته عملا من أعمال المخابرات والجاسوسية، بل سببها ميوله تلك ذاتها. بحسب ذلك القانون، قانون الدولة التي نصرت الديمقراطية في تلك الحرب، هو فرد عادي يجوز عليه ما يجوز على سواه. لقد جرى اختصاره كله بما رأته المحكمة نقطة ضعفه تلك، إذ لا شيء يعوّض عن شيء ولا يشفع شيء لشيء. قصة آلان تورينغ، ألمأخوذة من يوميات حقيقية، لا تذكّر أبدا بالأبطال السابقين، أيام كانت البطولة متلازمة مع الجبروت.

    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها