الخميس 2015/04/23

آخر تحديث: 14:26 (بيروت)

"بلا نوتة"... موسيقى في طريق الزوال

الخميس 2015/04/23
increase حجم الخط decrease
ليس سهلاً البحث في تراث موسيقي لبناني يختفي تدريجياً، وينحصر اليوم في مجموعات يختلف حجمها بين منطقة لبنانية وأخرى. فقليلة هي البحوث والمراجع الجدية عن هذا الموضوع، وروح هذا التراث لا بد أن تُستقى من أفواه قلّة من أهلها، قبل أن يرحلوا عن هذه الدنيا. وهذا ما فعله الفيلم الوثائقي "بلا نوتة"(*) الذي يضعنا أمام إشكاليات هذا التراث المرتبط بالتطورات الإجتماعية التي يشهدها الريف اللبناني.. وبالتالي صار في المكتبة اللبنانية توثيق قد يفيد الدارسين والمهتمين.

تبدو منطقة بعلبك الهرمل، في الفيلم، الأكثر تناقلاً للموسيقى التراثية، من طريق شعراء ومؤدّين وعازفين وفرق فنية مثل "هياكل بعلبك" المتخصصة في إحياء هذا التراث في الأعراس والمناسبات التقليدية من خلال الدبكة. ويبدو هذا التراث، وخاصة شعائر العرس اللبناني، مرتبطاً بشكل وثيق بالعادات القبلية والريفية، وهذا ما يظهر في أغاني الزفّة التي تصف العروس بزينة عرب على سبيل المثال كما ترتكز هذه الأغاني على تضخيم صفات العريس الحربية والقتالية التي تخوّله الحصول على عروسه التي تتصف بدور الضعيف والخانع، إذ يتردد بكثرة في هذه الأغاني تشبيه العريس بالصياد والعروس بالطريدة التي تُتعب العريس للوصول إليها.

يأخذنا الفيلم الى خيمة أحد هؤلاء العرب في منطقة تمنين في بعلبك، كأنه يعيدنا الى أصل هذا التراث. نتعرف على شخصين، أحدهما شاعر وعازف ربابة يلبس ثياب البدو، لكن يظهر من طريقة اعتماره للعقال وكلامه، أنه لا يمت لهم بصلة، بعكس الرجل الآخر المتأصل ببداوته الجالس إلى جانبه. يتناقش الرجلان حول أصل كلمة "أم الزلف" المشتقة بحسبهما من كلمة "الجدائل". لا يكترث البدوي كثيرا لإظهار تفوّق معرفته على الرجل الآخر الذي يبدو بثيابه كأنه نسخة مبتذلة عنه. ويصمت البدوي في مشاهد الفيلم الأخرى تاركاً الرجل يخبرنا عن معنى أصل مفردات أخرى من هذا التراث كالدلعونا والعتابا...


ينتقل الفيلم الى مدينة الهرمل البقاعية. يضعنا وسط مجموعة من شعراء ومغنّي هذا التراث، منهم الشاعر راشد اسكندر وهو الشقيق الأكبر للمغني محمد اسكندر الذي عرف بأغانيه ذات الطابع العنفي والذكوري. يخبرنا راشد اسكندر عن هذا التراث شارحاً مراحل العرس التقليدي ومفنداً معاني مفرداته، كما يظهر في هذا المقطع شعراء ومؤدون من الهرمل ما زالوا يقدمون أغاني مرتبطة بهذا التراث في الأعراس. ويبدو أن هذا التراث يعيد إنتاج نفسه في هذه المنطقة وهذا ما يظهر في حديث راشد عن أغان تراثية من تأليفه، أصبحت تقدّم اليوم كتراث لبناني قديم!

ينتقل الفيلم الى مناطق أخرى، وادي جزين (جنوب لبنان). عجوز يحمل كأس عرق يروي عن أسباب موت هذا التراث في منطقته: "كل العالم عم تتعلم بالمدارس والجامعات، واللي كانو هون يدقوا ويدبكوا ما بقا في حدا منن"، يضيف: "قبل كان كلها رعيان وفلاحين بهالبراري يعزفوا ويغنوا، هلأ بتروح عالحقلة ما بتلاقي برغشة". يلفت الرجل الى إلتصاق هذا التراث الغنائي بالريف اللبناني. فموته الآن لا ينفصل عن موت ذلك الريف وتحوّله بسبب تغير أنماط الإنتاج السابقة التي أخذت هذا التراث معها، مثلما أخذت شباب القرية الى المدينة ومن بينهم من كان يهتم بهذا التراث الفني. ويبدو الإنقطاع عن الأغاني التراثية واضحاً في حديث الرجل عن شباب المنطقة بعكس مناطق أخرى.

في بلدة مجدل سلم (جنوب لبنان) نلتقي أحد رعاة الماعز الذي يعزف على آلة المجوز. يبدو الشاب من زمن آخر نلحظ ذلك من خلال شاربيه القديمي الطراز. يخبرنا: "باخد المجوز معي عالبريّة بدق، بكون لحالي وفي معزي بتنبسط بس يكونو هاديين بدقلن عتابا ودلعونا". يبدو الشاب منفصلاً عن المجتمع فيأنس لوجوده مع الماعز التي تسمع عزفه بعيداً من البشر. لا يكترث الشاب لانقضاء هذا النمط الموسيقي، فهو يعيش خارج الدارج ولا يلتزم به، ليظهره الفيلم كحالة نادرة في المجتمع حافظت على هذا التراث بمحض الصدفة. لكن على الرغم من هذا، يبقى العزف على آلة المجوز والناي ملتصقاً بمهنة رعي الماعز وليس من المفاجئ الآن أن نجد راعياً يعزف عليها. لكن هذه المهنة أصبحت على شفير الإنتهاء مع تحول هذا النمط من الإنتاج الى مكان آخر مع تكريس معامل الحليب كمصدر أساسي لإنتاجه.

لكن هذا ما يأخذنا الى سؤال في غاية الأهمية: هل من الضروري في حال توقف أنماط الإنتاج السابقة أن تنتهي ممارسة الطقوس الفنية المرافقة لها، ما يحتّم توقف هذا الإرث السمعي عن التداول؟ وبالنظر الى تجارب أخرى في بلدان مختلفة نرى مثلا أن موسيقى البلوز التي بدأت مع الفلاحين الأفارقة في الولايات المتحدة تحولت مع الزمن الى موسيقى راقية ولم تتوقف مع تغيّر أساليب الإنتاج وهذا ما ينطبق على موسيقى الجاز كذلك.

لكن، في لبنان، لا يمكن الحديث عن إنقطاع  كامل عن هذا التراث، ويمكننا رؤية تجربة محمد اسكندر كدليل على استمراره بأشكال مختلفة. بدأ اسكندر مسيرته الفنية من خلال غناء قصائد أخيه راشد ذات الطابع التراثي من دون أن يحقق نجاحاً يذكر. ولم يتمكن اسكندر من الوصول الى النجومية الى أن بدأ بغناء قصائد ابنه فارس الذي يبدو أنه فهم المعادلة بشكل أوضح. لم يفك فارس الإرتباط مع الأغنية التراثية وهذا ما يظهر من المواضيع التي يتطرق إليها ومن أغانيه التي واجهت انتقادات كبيرة وأثارت الكثير من ردود الفعل السلبية مثل: "يلّي بيرميكي بوردة براسو بخطرش فردي". لكن هذه الأغنية لا تختلف بمضمونها عن أغاني الأعراس التي تمجد صفات الرجل القتالية أمام محبوبته. وما يغيب عن منتقدي هذا النوع من الأغاني هو ارتباطها الوثيق بالأغنية التراثية التي تحاول إعادة انتاج نفسها بأشكال جديدة. وهذا ما يبدو من متطلبات الجمهور اللبناني أولا الذي احتضن فنانين سوريين قدّموا ما يعرف في منطقة بعلبك الهرمل بـ"الأغنية النَّوَرية" أي البدويّة، أمثال نعيم الشيخ وعلي الديك وغيرهما والذين أعادوا انتاج التراث الغنائي البدوي بأشكال جديدة انتشرت في لبنان عامة، ليعيد لبنان استيراد وإعادة انتاج هذا التراث الغنائي "القبلي" من جديد.


(*) فكرة الفيلم: باسل قاسم، اخراج: حسام قاسم، بحث موسيقي: نضال أبو سمرا..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها