الإثنين 2014/07/21

آخر تحديث: 10:44 (بيروت)

على فكرة مدام...

الإثنين 2014/07/21
increase حجم الخط decrease

أقامت فرنسا عرضها العسكري وذهبت إلى العطلة.

بدأت جحافل السعادة القسريّة الزحف على طرقات اللهو والفرح والراحة، إلى البحر أو الجبل أو المطارات. منذ حصول الشعب على الإجازة السنويّة المدفوعة وبعد أن أقنعت النقاباتُ أرباب العمل بأنّ العامل الميت تعباً هو عامل غير منتج، بدأت السعادة طريقها الديمقراطي حتّى أصبحت قسريّة. أتذكّر ما كنت قرأته للإيطاليين فروتيرو ولوشنتيني في نقد سلوكات مواطني بلادهم، وأوروبا عموماً، أثناء العطل، وأتساءل كيف كانا سيسخران منّا اليوم في الموضوع إيّاه...


هجّ الفرنسي إلى عطلته فشعر الأغراب بأنهم أقلّ غربة وسط الغرباء الوافدين. الفقراء منهم – أي من الغرباء المقيمين– والعجائز ثقيلي الحركة، سيبقون هنا. وأيضا هؤلاء الذين أضحوا بلا بلاد يعودون إليها في العطل...


وكما في كلّ موسم نروح نحن اللبنانيين نسأل بعضنا إن كنّا "سننزل" هذا الصيف. بيروت هي دائماً "نزولاً"، ربما بسبب أننا في مجملنا من أهل القرى، والقرى دائماً على علوّ، ارتفع أو انخفض. ولأنّ العطلة في البلاد لها هذه السنة طعم العطل -وجمعها الأعطال–  من الرئاسة مروراً بالأمن حتى الكهرباء... سيكون علينا بذل الكثير من المجهودات في استنهاض عناصر حبّ الوطن، واستعمال وسائط النوستالجيا بشكل فعّال للحفر بحثاً عن مكوّنات روابطنا الوجدانيّة. وللنبش عن تلك الرومنطيقية الجميلة التي استبسل قومنا في البقاع الحبيبة في قلعها من قلوبنا بشتى الوسائل كضرس منخورة...


هذه السنة لن أسأل جورج إن كان سيصيّف في عكار، بين الضنيّة وتل كلخ والقصير... ولا هيام إن كانت ستكزدر في الجنوب على وقع حرب غزّة والرسائل المتبادلة بين الدعم والتكتكة... ولا رولا إن كانت ستعرّج على مهرجانات طرابلس أو حلويات شارع عزمي الـ.. بعيدة نسبياً عن جبل محسن...


كنّا نستمتع قليلاً بهيئات السيّاح. نتبرّم قليلاً من "الأوضاع" المترديّة. نتكلّم قليلاً عن أحوال "الغربة" في بلاد الهجرة. ثمّ يمشي حال فولكلورنا.. إلى أن نسأم قليلاً قبل أن نعدّ حقائب العودة، دامعي العيون لا نعرف لماذا بالضبط..


شوب شوب، لا تأتي الآن، تقول لي أختي. تتذرّع أختي بالطقس حتّى لا تحكي عن خوفها عليّ من الوضع الأمني واحتمالات تردّيه كثيراً وفي أيّة لحظة. وتخاف أختي أن يضعف حبّي بسبب تردّي أوضاع البلاد أو أن أكفّ عن السفر إليها، إليهم. تردف أن السّنة متل كلّ سنة، عادي، عايشين، وتعود إلى الطقس. أجّلي سفرتك قليلاً بانتظار... تسمعها أمّي فتروح في الشتائم المقذعة وتصرخ من بعيد: أحلى بلد وأحلى طقس. هذه عيشتنا. تريدين أن نخترع لحضرتك بلدا من أجلك؟ شرّفي، نحن بانتظارك...


في بلداننا كانت العطلة تعني انتهاء العام الدراسي. الآن صارت أقرب إلى انتهاء الوطن. لن أسأل أصدقائي السوريين عن عطلاتهم، لا من هم هنا في باريس، ولا من يفكّرون بالسفر إلى بيروت "للاقتراب قليلاً". عزاء للنفس أقول إن هناك من أسوأ منّي، منّا. خجلاً أسارع لإعلان النيّة بعدم السفر إلى البلد هذا الصيف. بقليل من الحرج وبشيء من الشعور بالذنب. فأنا ما زال عندي حيطان بيت أهلي، وما زلت أستطيع الطلوع إلى قريتي البعيدة اللطيفة المناخ. في بيروت يبدو "الاقتراب قليلاً" من سوريا غياباً عن بيروت. إنّهم سيكونون هناك، في بيروت، من أجل مكان آخر إذن، ومن أجل أناس آخرين قد يأتون من سوريا للقائهم...


أنا أيضاً أشعر أني، في بيروت، أكون في مكان آخر، من أجل مكان آخر، رحل وانطوى، ومن أجل أصدقاء غادر معظمهم. أبحث عن روائح المكان الماضية كالمنقّبين عن الآثار من دون علم التنقيب عن الآثار. وفي كلّ مرّة أعود إلى هنا، إلى باريس، محمّلة بتعب مرير، ثقيل وغريب، أحتاج بعدها إلى عطلة من "عطلتي"...


أمشي في شوارع باريس الخالية القريبة من بيتي وأنا أردّد أنّها أجمل أيّام المدينة الكبيرة، وأنّ عليّ الآن أن أكون ممتنّة لها، سعيدة بها، بأمانها وهدوئها ولطف طقسها. في شوارع غير بعيدة تظاهر شباب ونساء احتجاجاً على حرب إسرائيل على غزّة. ضرب بعض شباب العرب بعض شباب اليهود، ثمّ ضرب بعض شباب اليهود بعض شباب العرب، إلى أن منعت فرنسا التظاهر، فبدأت المعارك الصريحة. في حيّ "باربيس" بدا في صور مساء وليل الجمعة أننا على الجبهة... قال الشاب للمذيعة بهدوء: لا أدري كيف خرجت الأمور من يدنا، طبعاً نحن لا نريد مهاجمة البوليس. لكنّ شباب الـ"بيتار"- اليهود المتطرّفون – غير معقولين... على فكرة مدام هؤلاء هم "داعش" لا نحن.


أجلس في الساحة الصغيرة، قرب شجرة اللوز التي أعطت إسمها للشارع. العجائز المتربّعون -كما في بلدانهم وبيوتهم- على المقاعد الحديدية يتجاذبون أطراف الحديث كما في ساحات القرى. قبل المغرب بقليل يبدأون بالتململ وينفرد عقدهم. يقف أحدهم ويلتفت إليّ. يالله، بالسلامة بنتي، حان وقت الإفطار، يقول لي، رافعاً يده بالتحية وهو يبتعد. رمضانك مبروك يا حاج، أقول له شاكرة...

increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب