أبدى الأحبار رغبتهم الواضحة في قتل المسيح، وقام يهوذا الإسخريوطي بدور المفاوض في لعبة الخيانة والتسليم، التي يبرزها العهد الجديد كصفقة قذرة من تدبير الشيطان، شأنها شأن مؤامرات السياسة السوداء عبر التاريخ.
هكذا انتهت القصة البسيطة، ليبدأ الفن حكاياته المفصّلة التي لا تنقضي، مستلهمًا العشاء الأخير، والعشاء على وجه العموم، لتصوير جوع الإنسان للقيم الأصيلة وتعطشه إلى المعاني النبيلة، ومعاناته من الظلم والخيانة والقهر السلطوي وانسداد الآفاق والمنافذ.
قدّم ليوناردو دافينشي (1452-1519)، الرسّام والمهندس والمعماري وعالم الخرائط والجيولوجيا، المسيح في عمله الكبير "العشاء الأخير" (1498) رجلًا عاديًّا من غير هالات ضوئية، وكذلك قدم تلامذته، فهو يحكي عن بشر وصراعات، وليس عن قديسين.
وقد جاء تحرُّر دافينشي في هذا العمل بالتحديد ذا بُعدين؛ الأول فني، والثاني عقائدي. من الوجهة الفنية، لم يستخدم الفنان تقنية التصوير الجصي أو"الفريسكو" في هذا العمل كما كان متبعًا آنذاك، بمعنى استعمال الجبس كمادة لكسوة الحائط قبل الرسم، حيث اتجه إلى التلوين على الحائط بشكل مباشر، لضمان حرية أكبر في تنويع الألوان.
من الوجهة العقائدية، تحرر دافينشي في أيقونته "العشاء الأخير" من بعض المفاهيم المسيحية الراسخة، الأمر الذي وصفه النقاد بأنه ترجمة لعقيدة "سرية" لدى دافينشي، تختلف عن المسيحية الكاثوليكية صاحبة السلطة المطلقة في ذلك العهد، وأحال البعض تصوير دافينشي للمسيح بدون هالات ضوئية إلى اعتقاده أن يسوع إنسان فانٍ شأنه شأن كل البشر.
ومن قبل دافينشي، يتحرر الإيطالي دوتشيو (1255-1319) أيضًا من القوالب الموروثة ومن القداسة في مطلع القرن الرابع عشر مقدمًا عمله التشكيلي "أيقونة العشاء الأخير" بقسمين؛ العلوي الذي يُظهر يسوع وهو يغسل أرجل التلاميذ معلمًا إياهم التواضع، والسفلي الذي يظهرهم وهم يستمعون لعظة يسوع الأخيرة.
أما الدنماركي كارل بلوش (1834-1890)، فإنه يصوّر بريشته يهوذا الإسخريوطي وهو يغادر قاعة العشاء الأخير، استعدادًا لتسليم يسوع، في لوحة تتجلى فيها الحركة والانفعالات الإنسانية، ويبدو يسوع وتلاميذه مشبعين بالاطمئنان، فيما يسيطر الاضطراب على يهوذا بسبب فعلته الدنيئة.
ومن "العشاء الأخير" بخصوصيته، إلى "العَشَاء" كفعل إنساني عام، وهنا يجد الفنانون ضالتهم للانطلاق بلا سقف، حيث تتخلص التيمة التعبيرية من الإسقاطات الدينية المباشرة وتتحمل بتجليات أرحب لقيمة الحرية وتأويلات الجوع والظمأ والاحتياج، ومن ثم يصلح "العَشَاء" كعنوان عريض لتجارب ورؤى فنية متفاوتة ومختلفة.
في هذا الإطار، يأتي المعرض التشكيلي الجماعي لثمانية فنانين مصريين حول فكرة "العَشَاء" في غاليري "ضي" بالقاهرة (مارس-إبريل 2018)، إذ يقدم كل فنان من المشاركين تصوراته حول العشاء فلسفيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وإيروتيكيًّا، إلى آخر هذه الاحتمالات والوجوه المتعددة التي تعكس لحظات قصيرة تنتهي بها قصة كل يوم.
ست فنانات، وفنانان، هم: أسماء الدسوقي، إيناس الصديق، راندة فخري، صباح نعيم، غادة عبد الملك، منى غريب، أشرف رسلان، محمد عبد الهادي، تتيح أخيلتهم، أول ما تتيح، معاني الجوع للحرية، في ظل نفق مظلم يبتلع الواقع الراهن ابتلاعًا كاملًا، ويجعل الحياة مائدة خواء وارتقاب واحتضار.
العَشاء أيضًا، في أعمال الفنانين، احتفاء هزيل بجسد منهك بعد معاناة طويلة، وإحساس بيولوجي وروحاني بالموت المؤقت الذي يملأ الأطباق والأكواب والأنوف، واحتياج متجدد متأجج إلى المشاعر المفقودة جنبًا إلى جنب مع الافتقار إلى الطعام والمال والهواء والضوء وعناصر التحقق والوجود.
"حلاوة روح"، عنوان اختاره الفنان أشرف رسلان (50 عامًا) لإحدى لوحاته بالمعرض (تصوير، ألوان زيت على خشب)، وفيها يصوّر امرأة ترقص بحركات دائرية إلى جوار طبق فيه خمس ثمرات، ويوحي معنى حلاوة الروح بمرح اللحظات الأخيرة في عمر يوشك على الفناء، فالعشاء والرقص بوابتان لغرفة واحدة هي الرحيل.
ويحتفي الفنان ذاته في لوحته "دعوة خاصة" بالجسد واهي القوة، المتعري من أوراق حمايته، فالعشاء الذي لم تعد تملك الأنثى غيره لتقدمه لرفيقها هو بعض ثمرات هذا الجسد، وفي لقائهما الحميم قد تولد حياة ما مع غياب حياة أخرى. وفي مجموعة أعمالها: "أستجديكَ على العشاء"، "بطعم الحب"، "أنتَ وأنتَ"، "بدون عنوان"، "تفاح الأرض"، "زهور الطريق"، "لكي أراكَ من بعيد"، وكلها بألوان الأكريليك على توال، تقدّم الفنانة إيناس الصديق العَشَاء مرادفًا للانتظار، وافتقاد المرأة للرجل، وللمشاعر الدافئة، حيث لا يكتمل للتفاحات نضجها بغير لقاء مؤجل منذ الأزل، ولا مذاق للأشياء بغير طعم العشق.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها