الأربعاء 2018/04/04

آخر تحديث: 15:18 (بيروت)

لوثر كينغ: سوريا وفلسطين تحتاجانك أنت.. لا غيفارا

الأربعاء 2018/04/04
لوثر كينغ: سوريا وفلسطين تحتاجانك أنت.. لا غيفارا
بإمكانك أن تلهم اليوم مهاجري العرب والمسلمين وأفريقيا في أوروبا
increase حجم الخط decrease
عزيزي مارتن لوثر كينغ...

بعد خمسين سنة على دمك المغدور في ممفيس، تحتاجك مسيرة العودة الكبرى في فلسطين، ومسيرة المواطنة المتساوية الحرة في سوريا، بل مسيرات كبرى أخرى لن تنهض قضية الحرية الإنسانية من دونها. تحتاجك أميركا بلدك التي لم يجف الحقد العنصري في عقول ضيقة إنسانيّاً فيها، حتى بعد أن تحقق بعض حلمك، ووصل أول رئيس أسود إلى البيت الأبيض، لكنها عادت برئيس منفلت لا تفصله مسافة بعيدة عن أعمدة القتل والحرق لتنظيم "كلو كلوكس كلان".

بعد نصف قرن، تحتاج سوريا وفلسطين أن تحشدا "مسيرة الشعب الفقير" التي اغتالتك رصاصة العنصرية قبل أن تستكملها. تتوق سوريا وفلسطين أن تربطهما صورتك وحلمك، مع نضالات مستمرة للسود والملونين والمهاجرين والنساء في بلدك أيضاً. تحتاج شوارع دمشق وحلب والغوطة وغزة ورام الله والناصرة ويافا، مسيرات ترفع يافاطاتها عبارة "لدي حلم" التي أطلقتها أنتْ في 1963 عن أطفال يولدون في مجتمعات الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية للجميع. تحتاجك شوارع العرب أكثر من حاجاتها إلى "غيفارا" والسلاح الثوري. ترتسم صورتك في أفق فلسطين حيث كان السلاح ضرورة لزلزلة نير الاحتلال والتطهير العرقي، لكنه بات الآن يسير بسرعة من مشروع الاستيلاء على الدين اليهودي لخدمة السياسة (كررتها "داعش" و"النصرة" وسواها)، إلى نظام الابارتهايد العنصري، مع الدفن المتدجرج لحل الدولتين. تتعطش دمشق إلى مسيراتك السلمية المنادية بمواطنية متساوية تحت راية الحرية، بعد أن استولت وحوش الإرهاب الاسلاموي على سلاح الثورة السورية المرفوع ضد هرس أجساد الاحتجاج السلمي، وصارت الفصل الأبشع في قتل الشعوب العربية والدين الاسلامي.

بعد نصف قرن تعود أنت، ليس لأن غيفارا ليس ضرورة، ولا للقول بنقد السلاح على طريقة صديق غيفارا ومُراجِع تجربته ريجيس دوبريه، بل لأن العالم في القرن 21 لم يعد ممكناً تغييره بالبؤر الثورية المقاتلة. دخل العالم في قمع منفلت ونظم ديكتاتورية أشد قمعاً وتغولاً. وتبدى أن ديموقراطياته وحداثته العقلانية فائقة الهشاشة. وباتت خيارات العالم مترجحة بين حدين لا نموذج إنساني متقدم فيها: إما رئيس لسلطة حديدية لمشروع ينجح بدولة صارمة غير ديموقراطية على حساب الحرية والمواطن، أو شعبوية ترفع الدولة بألوان ديموقراطية مع مواطن عنصري. الأسوأ أن دعاة سلاح الإرهاب الاسلاموي يرون أنفسهم ورثة السلاح الغيفاري (بالطبع، مع تكفير اليسار بل كل من ليس على شاكلتهم)، ولم يعد ممكناً اقناع المجتمعات بالأفاق الإنسانية لمن يحمل سلاحاً مقاتلاً لأجل الحرية. ألم يكن ذلك حاضراً بشكل ما، في خلافك المديد مع مالكولم إكس، مؤسس تنظيم "أمة الإسلام". قضى مالكولم اغتيالاً (1965)، ولم تنجك سلميتك من رصاصات الاغتيال: الوحش العنصري لم ينفع معه العنف ولا حتى السلام!

استطراداً، قضى غيفارا اغتيالاً أيضاً، قبل قرابة نصف قرن أيضاً.

وبرأيك أنت الذي أصر على رفع الحياة إلى أفق النضال السلمي الحريص على عدم هدرها، وفي أفق المصير المتشابهه للسلاح والنضال السلمي، أليس لذلك دلالة أيضاً، أقله بالنسبة لدرجة تغوّل القمع في قلب نظم الحداثة؟

بعد خمسين سنة، تحتاجك بلدان عربية وأفريقية لا حصر لها، صار أهلها وأطفالها في جغرافيا أميركية واوروبية، ترن في جنباتها أصوات الحقد العنصري على المهاجرين. يسير في تلك الشوارع عرب ومسلمون وأفارقة مهاجرين، كأبويك وأجدادك، يحلمون بيوم يقف فيهم أطفالهم بشراً متساوين في الإنسانية مع الجميع، و"تحت عين إله هو خالق البشر أجمعين"، وفق كلمات الشاعر شيللر التي طرزتها سمفونية بيتهوفن التاسعة. للأسف مازالت مساواة البشر في الدين بعيدة، بعد أكثر من عقود على تحويلك الرداء الاسود للقس المعمداني الذي كنته، إلى بذلة المسيرات السلمية المنادية بحقوق الأفارقة الأميركيين، وهم جاؤوا في هجرات قسرية إلى بلاد سبقها إليهم مهاجرون أيضاً.

بإمكانك أن تلهم اليوم مهاجري العرب والمسلمين وأفريقيا في أوروبا. أنتَ عبرت بقضية التمييز العنصري ضد السود لتصبح قضية المجتمع الأميركي بأسره، بل الانسان، واندمجت مع مناهضة الحرب والنضال لأجل العدالة الاجتماعية بأشكالها كلها. في ذلك الأفق، سار طلاب انتفاضة 1968، رافعين صورة الأفريقية- السوداء أنجيلا ديفيس، أيقونة لمطالبهم في الحرية وتحطيم الاستلاب لإنسانية الإنسان في المجتمعات الغربية. بإمكان نضال مارتن لوثر كينغ أن يلهم مهاجري اليوم في أوروبا (بل حتى في بورما) أن يسيروا بمطالبهم المحقة تحت أفق إنساني عميق، وأن يصوغوا خطاباً للحوار الواسع مع المجتمعات الأوروبية والغربية، كي تصبح قضية المهاجرين جزءاً من نضالات شعوب أوروبا نفسها من أجل الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية وتجديد معنى المواطنية المعاصرة في القرن 21.

بعد نصف قرن على اغتيالك، لم يتردد البعض في إفلات عنصريته ضد المهاجرين السوريين في لبنان وكذلك حيال اللاجئين الفلسطينيين فيه، وهم مهجرو انفلات ودموية المشروع العنصري في فلسطين. ألا تستطيع صورتك أيضاً أن تلهم سوريين وفلسطينيين، أن يعيدوا صياغة خطابهم ووعيهم حيال لبنان، كي تصبح قضيتهم جزءاً من قضية الشعب والوطن فيه؟ ربما أن نقد السلاح، مرَّة اخرى، جزء اساسي من تلك الصياغة.

بعد خمسين سنة على اغتيال القس المعمداني مارتن لوثر كينغ، وتحت شعار قضايا محقة لشعوب إسلامية كثيرة، حوّلت أيدي العنصرية الدينية المسلحة، أردية الدين الاسلامي كلها، إلى رايات سود جرى في ظلها مجازر جماعية، وتصفية عنصرية، وسبي للنساء وتجارة بأجسادهن، وقتل متنوّع للطفولة وما لا يحصى. نعم. نعم. بعد خمسين سنة، تحتاج شعوبنا إلى مسيرات مارتن لوثر كينغ السلمية، لا سلاح غيفارا الذي لم تستطع تلك الشعوب حفظ ثوريته العميقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها