الخميس 2018/04/26

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

محمد خضير: هجران

الخميس 2018/04/26
محمد خضير: هجران
increase حجم الخط decrease
(*) عيون المبنى المهجور عُميٌ، أم أنّ هناك من يرقب الزقاق خلفها؟ هجران المبنى جرى بأسباب شتى: الموت، الاستملاك، الهجرة (والألفاظ الثلاثة مشبعة بأسباب الفراغ والعمى). ثلاث نوافذ متجاورة في الأعلى، ونافذتان في الأسفل، محاجرُ خاوية، هجرها الضياء وهمدت نظراتها المتقابلة مع المارة.

يعترض المبنى الخالي طريق السابلة، وهم قلة، يتسربون مسرعين ولا يعودون، كسكان المبنى، أغلقوا البابَ وراء ظهورهم ومضوا بلا إنذار سابق. لا يملك الجيران معلومات مؤكدة، فهم أيضا يتغيرون باستمرار، يمضون ولا يعودون. المفاتيح بيد المالك المجهول، وهو ثقيل بما يملك من آمال في بناء عمارة مكان المنزل المتداعي، وقد يخوّل سيارته الحديثة حقّ الوقوف تحت النوافذ، إشارة مؤقتة على ملكيته المبنى. آماله مثبتة في سجل الطابو، مع الأسماء المتداولة للمالكين السابقين، كأعمدة ساندة، لكن المبنى قد ينهار فجأة.

ثمة كلمة غامضة خُطّت على الجدار الأمامي، الى جانب الباب، ولا علم لأحد بكتابات الجدران الداخلية. السلسلة الصدئة حول مقبض الباب الخارجي لا تشير الى زيارة قريبة، المبنى ينقفل على كتاباته منذ المغادرة. الطابوق الكالح يطمس المعنى المخطوط منذ أمدٍ غير معلوم، معنى مشرعاً للنظر السريع، كغيره من إشارات التعريف المطموسة (القعود في فراغ، الهجران المملوء بالنظرات) وأيّ كلمة على المبنى وحوله لا تعرّف شيئاً أكثر من ذلك المعنى.

كنت قد انهيتُ بعض حوارات كتاب "بؤس العالم" التي جمعها بيير بورديو مع فريقه بثلاثة أجزاء (الاصلاح، نهاية عالم، منبوذو العالم)، عندما خرجتُ للبحث عن شواهد من عالمه الأنثربولوجي البعيد، أقارنُها بكائناتنا البائسة. أحسستُ أنّ "الهجران" هي الكلمة الساقطة من أجزاء الكتاب وأن كلمة "القعود" تربط الأسباب المتفرقة في إحالةٍ ممكنة إلى المبنى الفارغ في زقاقنا. قد يصلح المبنى رابطاً لإجراء حوار يسدّ النقصَ في كتاب البؤس المتعدد الروابط. ربما سيجيب أحد الجيران سؤالي عن ساكني المنزل بقوله: "نعم. كان سكناً لمجموعة عمال مصريين تركوه مع اندلاع حرب الكويت. تسللوا تباعاً ولم يتركوا أثراً. مات واحد منهم عندما انهار به مصعد بناء واحدة من العمارات التي قامت في قلب البقعة السكانية الفقيرة. لم يكن الحادث نادراً لكنه أجبر الآخرين على المغادرة عندما تأخرت أجورهم. تسللوا بأمتعة قليلة، وأقفِل المسكن. ثم صار خرابة".

(*) مدونة كتبها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها