الأحد 2018/04/22

آخر تحديث: 07:10 (بيروت)

"الجمال جرح" لإيكا كورنياوان..رواية الروايات

الأحد 2018/04/22
"الجمال جرح" لإيكا كورنياوان..رواية الروايات
أول كاتب أندونيسي يترشح لجائزة مان بوكر عن روايته "الرجل النمر".
increase حجم الخط decrease
هي كتلة ورقية، ولعل اقتناؤها وقراءتها في ضيق زمن القراءة مغامرة. فأن تقرأ عملا أدبياً أكثر من ستمائة صفحة، وسط جدول قراءات وأعمال معلقة، وكتابات تنتظر، هي مخاطرة، تحسمها الصفحات المائة الأولى لهذا العمل، الذي يأخذك معه في متاهته الجميلة، فلا تشعر إلا ويدك ملتصقة به، تود كل مرة أن تنهي خمسين صفحة، ولا تنهيه.

إنها رواية "الجمال جرح" للأندونيسي إيكا كورنياوان، وليس مبالغة وصفها بأنها "رواية الروايات"، وربما يظن البعض أنني أقصد أنها أعظم ما قرأت، وهي إلى جانب أنها تعتبر من أهم الروايات التي أتيح لي قراءتها، إلا أنها أيضا ثمرة من إطلاع صاحبها على أعمال روائية عظيمة كثيرة، نجدها كلها هنا. وإن كانت العملية الأدبية في مجملها تراكمات، بمعنى أن الكاتب يهضم العديد من الأعمال الأدبية قبل أن يكتب تجربته الخاصة، فإن هذا ينطبق على تجربة إيكا كورنياوان، وزيادة أنه وظف بيئته وتاريخ بلده لخدمة ما هضم، فأنتج رواية عظيمة، هي "الجمال جرح"، تبدأ الرواية باستهلال جاذب ومثير يحيلك فوراً إلى روايات الرعب بشكل ما.. "في عصر عطلة أسبوعية من مارس، وبعد موتها بإحدى وعشرين سنة، نهضت ديوي أيوا من قبرها".


وجدت أن كورنياوان الذي وصفته صحيفة الأيكونوميست، بأنه "يتميز بأفكار جريئة وطاقة قاسية"، في روايته "الجمال جرح" لديه طاقة في صياغة العديد من الحبكات الفرعية، ينسج مثل عنكبوت دؤوب، حكايات تتولد من قبل حكايات أخرى، فالبطلة الرئيسة التي يفتتح معها العمل سطره الأول ديوي أيوا هي آخر هولندية بقيت من الأسر الهولندية التي رحلت مع قدوم الاحتلال الياباني لجزر الهند الشرقية أو أندونيسيا، التي احتلها الهولنديون قرابة ثلاثة قرون، ثم غادروها مع الحرب العالمية الثانية، مع مجيء اليابانيين.

يشير المترجم أحمد شافعي في مقدمته للرواية إلى أن إيكا كورنياوان قال في حواره مع "نيويوركر" الأميركية إنه كان يطمح إلى كتابة رواية أشباح، أو رواية إثارة، وهو ما يتبدى من السطر الأول فعلا، لكن الرواية أرغمته على مسارها الذي تماثل إلى حد كبير مع عمل ماركيز الأشهر "مائة عام من العزلة"، بل ظهرت داخل الحكايات التي نسجها إيكا مئات الأساطير التي كونت مخيلته ككاتب.

تعود ديوي أيوا للحياة بعد عشرين سنة، نعرف أنها عاهرة مدينة "هاليموندا"، وهي مدينة متخيلة على غرار "ماكوندو" ماركيز و"جيفرسون" فوكنر. كانت قد أنجبت ابنتها الرابعة التي جاءت دميمة حسبما تمنت، وأسمتها "جمال" لتشكل أولى مفارقات هذا النص الممتع، ثم ارتدت كفنا، وبقيت راقدة فيه عدة أيام في انتظار الموت، يعود كورنياوان بالحكي إلى أصل وفصل ديوي أيوا، فهي سلالة الهولنديين هنري وآنيو ستاملر" اللذين هربا من البيت في غفلة من الجميع قبل ستة عشر عاما، بدون وداع أحد، وقد تركا وراءهما ديوي أيوا الطفلة الرضيعة.


غضب جائع

يصعب مع هذا الكتاب اختصار حكايته، إنما تجدر الإشارة إلى مواضع التقائه مع الأعمال الروائية الكبرى، وخاصة "مائة عام من العزلة" الذي يعتبر العمل الأستاذ لـ"الجمال جرح"، فكما طارت إحدى شخصيات ماركيز إلى السماء، تطير "ما إيانج" إلى السماء إحدى محظيات الهولنديين الاستعماريين، ويسمى أهل هاليموندا تلا باسمها، وبالإضافة إلى ذلك هناك الشخصيات الرئيسة التي تتشابه كثيرا مع شخصيات ماركيز، فهناك الرفيق "كلايوون" المناضل الشيوعي الذي يؤلب صيادي هاليموندا على الحاكم العسكري شوادنتشو، وتنتهي البلاد بالدخول في مذبحة الشيوعيين الكبرى، وهي إحدى الوقائع التاريخية الكبرى في تاريخ أندونيسيا، يتشابه الرفيق كلايوون كثيراً مع الكولونيل أوريليانو بوينديا، ويتشابه البلطجي "مامان غيندنغ الذي ترتد الرصاصات عن صدره مع خوسيه أركاديو" ضخم الجثة، في رواية ماركيز.

ثمة العديد من الأساطير المتراكمة أيضا داخل "الجمال جرح" ومنها حرب طروادة، إذ ينسج كورنياوان، حكاية الأميرة "رينجانيس" التي دبر ذات يوم أمير ناقم محاولة لأختطافها بالقوة بصحبة ثلاثمائة فارس، فاندلعت حرب كبيرة، وانجرف إليها أمراء وفرسان، ولم ينته العام إلا والناس في حيرة من أمرهم لا يعرفون من مع من ومن ضد من، لكن الجميع كانوا يعرفون الحرب ظلت دائرة طوال سنين على امرأة إلهة الجمال في هاليموندا.

بشكل آخر، مثل كل الأعمال الكبرى، يومئ كورنياوان إلى أن الحب هو فتنة الحياة، يقدم روايته بمقطع من "دون كيخوته" يقول فيه ثرفانتس: "ما إن انتهى من تنظيف سلاحه واتخذ من قلنسوة بسيطة خوذة مكتملة، وأطلق اسما على حصانه، وقرر لنفسه اسما أيضا، حتى أدرك أنه لا يعوزه غير شيء واحد، هو أن يعثر لنفسه على سيدة يغرم بها، فما الفارس الجوال بغير حبيبة إلا شجرة عاطلة من الورق والثمر، بل هو جسم لا روح فيه".


دحر الحب

الفتاة الدميمة التي تتسمى الرواية باسمها ليست هي بطلتها، بل قصص الحب التي تنشأ بين شقيقتها الكبرى "ألامندا" والرفيق كلايوون الشيوعي، لكن "آلامندا" تتعرض للاغتصاب على يد شوادنتشو، الذي يحاول إيقاعها في حبه، لكنها تهزمه، مثلما اشتهرت بإيقاعها الكثير من رجال وفتيان هاليموندا في حبائلها، وتنتهي قصة الحب بينها وبين كلايوون بزيجتها من شوادنتشو قائد هاليموندا العسكري لتنتقم منه على اغتصابه لها.

قصة حب أخرى تجمع بين كلايوون وشقيقة آلامندا الوسطى أديندا التي تتعرف عليه على الشاطئ حينما ينقذها من عضة كلب مفترس، وقصة حب ثالثة تتكون بين البلطجي مامان غيندنغ وبنت ديوي أيوا الصغرى، وهكذا يكون الحب بشكل أو بآخر هو بطل الأحداث، فتنقذ آلامندا حبيبها الأول كلايوون من الموت على يد فصيلة الإعدام بعد ان تكف عن امتناعها جسديا عن زوجها شوادنتشو، وتسمح له بالنوم معها أخيرا مثل أي زوجين طبيعين، والحب هو الذي يعيد الرفيق كلاييون إلى عقله بعد سنوات من النفي، حينما يواقع حبيبته الأولى "آلامندا"، والحب هو الذي يجعله يشنق نفسه حينما تعرف زوجته "أديندا" بما جرى بينه وبين شقيقتها، فتسامحه، كما أن الحب هو الذي يدمر ذرية البنات الثلاث، فكريسان نجل كلايوون، يقتل "رينجانيس" ابنة مامان غيندنغ، ويلقيها في البحر، لأنها كانت فائقة الجمال، يضاجعها أولا، فتحمل منه، وتنجب.

يشن مامان غيندنغ حربا على المدينة بأسرها للعثور على من قتل ابنته، ويتصدى له القائد العسكري شوادنتشو، لكن البلطجي عصي على القتل، فينجو، بينما كل رفاقه يقتلون، ويضعهم الجنود في "أشولة" ملقاة على قارعة الطريق، ومثلما كانت إيزيس تبحث عن بقايا زوجها أوزيريس، تبحث مايا ديوي عن زوجها، "هكذا مضت تلك المرأة الجميلة بوشاح أحمر يقيها ضوء الشمس، تنتقل من جوال إلى جوال، وتحل أربطتها واحدا بعد الآخر، لا تثنيها رائحة التعفن إذ تقتحم أنفها ولا تبالي بأنها تنافس الذباب، وتتحقق من الجثث مقارنة وجوهها بذكرى وجه زوجها الحبيب".

وبالطبع كل الحلول السحرية الخيالية هي صالحة في يد إيكا لتفسير كيفية نجاة مامان غيندنغ من المذبحة، فالرجل يتحول في النهاية إلى روح سحرية، يحول وجه رفيقه "روميو" الذي يدل الجنود على الكهف الذي يختبئ فيه، إلى وجه تنطبق مع ملامحه، في مقابلة مع قصة "يهوذا والمسيح"، قال مامان غيندنغ: الخائن خائن، ثم حول وجه روميو إلى وجهه في اللحظة التي رجع فيها الجنود الأربعة، أخيرا عثرنا عليك يا مامان وصوبوا أسلحتهم إلى حيث يقف، قال الرجل: أنا روميو، لست مامان غيندنغ.


*صدرت ترجمة "الجمال جرح" عن دار الكتب خان في القاهرة بتوقيع أحمد شافعي. واختارت نيويورك تايمز الرواية ضمن أبرز مائة كتاب في سنة صدور ترجمتها إلى الإنكليزية، وفي عام 2016، كان إيكا كورنياون، أول كاتب أندونيسي يترشح لجائزة مان بوكر الدولية عن روايته "الرجل النمر".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها