الثلاثاء 2018/04/17

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

"أشباح هاينريش بُل": حوار الفرد والجموع ويوتوبيا الثورة

الثلاثاء 2018/04/17
"أشباح هاينريش بُل": حوار الفرد والجموع ويوتوبيا الثورة
يعاين أحلامه المجهضة ويتتبع الأمل الذي يسوقه إلى نضال لا يعرف إلى أي شيء ينتهي
increase حجم الخط decrease
«في السنوات العشر الأخيرة قبل الثورة، كانت كل المؤشرات تحيل لحدوث كارثة»؛ يقول علاء خالد في روايته الأحدث «أشباح بيت هاينريش بُل»*، لكنه لا يضع جملته -الصالحة كدافع سردي- في مفتتح كتابه؛ يؤخرها إلى خمسين صفحة تالية، فأتلقاها كسؤال أتعثرُ في الإجابة عليه: ماذا جرى وينذر بكارثة؟ لا أعرف، وأعجز عن استخدام القول نفسه لتقدير الوضع الراهن: «في السنوات السبع الأخيرة بعد الثورة، كل المؤشرات تحيل لحدوث كارثة»! وكأنني –وأظن نفسي غير وحيد في ذلك- ذائب في الحدث. وكل زمن –سابق أو لاحق- هو راهن أذوب فيه، غير قادر على الانفصال عنه لتأمله، وأن تعبير مثل «إننا نعيش الكارثة» –رغم ما يحمله من تعزية- مجانيًا لا يفسر غياب القدرة على التقدير!


لم يسع علاء خالد في روايته لتشريح ثورة يناير، أو لإصدار أحكام عليها، وإنما فتح حوارًا ضمنيًا بين جيل يمثله، وآخر -أكثر حداثة- أمثله، باعتباري قارئه المفترض، فقدم شهادته التي كونها عبر تأمل ذاته بمعزل عن الثورة وفي خضمها، ثم ترك لي المجال كقارئ لأواجه إجاباته كأسئلة أطرحها على نفسي في سبيل تقديم شهادتي.

يقول الراوي:« أشعر بأني أنتمى لجيل وسط تاريخي، جيل همزة الوصل بين القديم والحديث، ومكان الربط. لم أعش بكليتي أخلاق أي جيل، لا القديم ولا المعاصر، ولا القادم. كان لي جيلي الذاتي، والنابع من طبيعة الزمن الذي يجري داخلي. كنت أشعر بأني حامل الوجه الرمزي الشفاف لأجيال أقدم. كنت أشعر بأن الماضي يسير داخلي ليصل للمستقبل، فأنا لست إلا معبرًا لأشكال من الحياة يجب أن تستمر. أشعر الآن بأن دوري أنا وأشباهي، الذي لم يقلدني أحد إياه قد انتهى"، ويضيف في موضع آخر من الرواية «ربما تواجه ذوات الذين اشتركوا في الثورة، أو غالبيتهم، مجموعة من الأسئلة المؤلمة. هذه الذوات كانت تعيش قبل الثورة في حالة عزلة مطبقة، وأخذت تبني لنفسها تصورات ونظريات وتجمع الأدلة من هنا وهناك حول مشروعية هذا المسار المعزول من العيش. وبالتالي بنت وتبنت تصورات، في أغلبها سلبي حول علاقتها بالجموع. طول فترة الهجر من الجموع تحولت هذه الذوات، أو غالبيتها، إلى ذوات مهجورة تبحث عن الوصال، الذي لم تحققه حتى مع أبسط أشكال الجموع وجودًا، فعشقت نفسها بضراوة. وإلا كيف تبدد تلك الطاقة من الغضب والاستبعاد؟ العشق إحدى الوسائل للتحقق، وللتبادل، وأيضا لتبديد الغضب المجاني الذي لا ذنب لأحد فيه».

وكذات لم تعش عزلة مطبقة قبل الثورة، وكانت يناير بداية طريقها في التعرف إلى فرديتها، أبصر، عبر هذين المقطعين، كيف أسس علاء خالد روايته، وأقرأ من خلالهما عالمها.

يسافر «علاء» إلى ألمانيا، بعد أسابيع قليلة من تنحي مبارك، في منحة للإقامة الأدبية، وفرتها له مؤسسة هاينريش بُل، ليعيش أجواء روايته، مع أربعة كتاب من جنسيات مختلفة (صربيا، والشيشان، وبيلا روسيا، والصين)، تجمعهم سمات شرقية مشتركة، وظروف سياسية متشابهة، وأحلام مجهضة «كنا بشكل ما ضحايا أنظمة سياسية شمولية، ربطت فيما بيننا برموز مشتركة، وعاطفة مشتركة، وكنا جميًعا في لحظة تفسخ نبحث فيها عن هوية جديدة، ما بعد الانهيار الكبير، أيا كان مصدره أو مبعثه أو مكانه»، ويسير الراوي في خطين متقاطعين، يحفظ في الأول صور الثورة ويؤولها عبر مقالات يكتبها إلى جريدة سيارة في مصر، ويتقصى في الثاني مستقبلها من خلال حوارات شائقة تدور بينه وأربعة كتاب يجلسون إلى طاولة واحدة في ألمانيا.

وقد أقول إن ثمة تناقضاً تحمله صورة بطل «أشباح بيت هاينريش بُل» بين ما تعكسه في المقالات من إعلاء لقيمة «الجموع» التي «أعادت مسيرتها أواصر النسب بينه وبينها»، وما تمارسه من علاقة فعلية بزملائها كتاب المنحة، كذات فردية «تعشق نفسها بضراوة»، تشارك في حواراتهم، لكنها تحتفظ لنفسها بالكرسي الأعلى، تشرحهم وتصدر أحكامها عليهم، من خلاله، ولا تمنح أحدًا غيرها الحق ذاته، لكنني بذلك أتجاهل الكرسي السادس، الذي وفره علاء خالد لقارئ دعاه إلى حوار ضمني -لا يعتبر القدرة على الانعزال والتأمل ميزة، ولا التورط حد الانغماس نقيصة- فمنحه شهادته عن ثورة تأمل ذاته في مرآتها، وينتظر منه المثل، ريثما يتساءل (القارئ) عن دور الثورة في حياته، بينما يعاين أحلامه المجهضة ويتتبع الأمل الذي يسوقه إلى نضال لا يعرف متى وإلى أي شيء قد ينتهي به.

(*) صدرت في القاهرة عن دار الشروق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها