السبت 2018/04/14

آخر تحديث: 10:58 (بيروت)

13 نيسان 1975..الحرب والسلام على الطريقة اللبنانية

السبت 2018/04/14
increase حجم الخط decrease

 

في 13 نيسان/ابريل 1975، اندلعت من حي عين الرمانة في بيروت الشرارة الأولى للحرب الأهلية الطويلة. اشتدت الاشتباكات إثر حادثة "البوسطة" الشهيرة، وامتدت إلى عدة محاور، غير أنها هدأت بعد بضعة أسابيع، ولم يتوقّع أحد يومها أنها ستعود بضراوة لتستمر لسنوات طويلة. على العكس، قيل إن هذه العاصفة هدأت، وان السلام عاد إلى ربوع البلاد، وارتفعت الأصوات التي تبشّر بعودة ليالي الصيف الهانئة التي عُرف بها لبنان.


انطلقت هذه الدعوات في مطلع شهر حزيران/يونيو. شهدت بيروت يومها مسيرة نسائية دعا إليها نقيب الصحافة رياض طه. في "يوم الدعوة لاستبدال البندقية بزهرة" انطلقت "مسيرة المحبة" من مبنى نقابة الصحافة، والتقت بمسيرة شبابية أخرى في منطقة رأس النبع. وزع المشاركون في هاتين المسيرتين الزهور على المارة، داعين إياهم الى الحب والأمان والسلام، ودخلوا إلى الأحياء التي تقام فيها المتاريس، وراحوا يحاورون المسلحين، داعين إياهم لتحكيم العقل والقلب باسم لبنان. بعد بيروت، أبت عاليه عروس المصايف الا ان نشارك في حملة التهدئة وإعادة الحب والطمأنينة إلى النفوس، ونظّمت مسيرة أخرى حملت عنوان "لبنان للجميع".

واكب الجيش هذا التحرّك، ومنح العميد الركن الأول عزيز الأحدب جائزة الأمير فخر الدين التقديرية لحي رأس النبع ممثلا بشخص المختار نصوح الشعار، وأصدر بيانا يقول: "حي كريم من احياء العاصمة، ظهرت عن شبابه بادرة كريمة بنّاءة في الظروف العصيبة التي تمرّ بها البلاد، اذ شرع شباب هذا الحي يوزّعون الزهور على المواطنين حسماً للنزاع، داعين إلى المحبة، مدلّين على تحسّس عميق بمسؤولية المواطن، وشعور مرهف بمدى فداحة الخسائر وآلام المواطنين، مبرهنين عن أصالة وطنية نبيلة تستحق التقدير والاعجاب".

بالتزامن مع "مسيرة المحبة"، دعا الرئيس صائب سلام إلى الهدوء والاستقرار والأمان، وكرّر شعاره القائل "لبنان واحد لا لبنانان"، وردّد المواطنون من بعده "يا سلام يا سلام". طوال أيام المحنة التي مر بها وطنه لبنان، نزع الزعيم السياسي البيروتي من عروة سترته القرنفلة التي اشتهر بها، "فالقرنة وردة فرح تطيب المنافس، وهي لا تتفق بحال من الأحوال مع رائحة البارود التي كانت تعصف بالوطن الغالي"، وأعادها إلى صدره بعد هدوء الأوضاع "لتدلّ على ان الحياة الطبيعية عادت على لبنان، وان الانسان فيه يستطيع بعد اليوم ان يشم القرنفل والياسمين والريحان".

في المقابل، ظهر الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي على شاشة التلفزيون، وقال إن قلبه مطمئن إلى عودة الحياة الطبيعية في لبنان، ودعا أبناء الوطن "إلى استئناف الليالي الحلوة، والى الرقص في الحلبات، وإلى تبادل القبلات في الشوارع". كذلك، تحدّثت السيدة مي عريضة باسم لجنة مهرجانات بعلبك، وقالت انها "متفائلة كل التفاؤل"، وأعلنت "ان مهرجانات بعلبك لصيف 1975 ستكون من انجح المهرجانات، وخصوصا انها ستحتفل بمرور عشرين سنة على قيام مهرجاناتها الدولية"، وأكّدت أن الأخوين رحباني انتهيا من وضع اللمسات الأخيرة على مسرحيتهما "زمان اليسا"، وأنهما سيقدّمانها مع فيروز بهذه المناسبة في بعلبك.


هكذا تخيّل الكثيرون ان لبنان عاد نهائيا إلى حياته الطبيعية، وسارعوا إلى تلبية دعوة رشيد كرامي. نقلت الصحافة صور ليالي بيروت الصاخبة، وقالت في تعليقها: "رقص وخصور تتمايل وموسيقى لا تهدأ في مرابع بيروت الراقصة التي استعادت حيويتها". في عروس المصايف عاليه، انحصر السهر في ملهى "الباكبو" الذي يديره الشاب علي درويش "متحديا كل الأزمات، ليعيد الى عروس المصايف ابتسامتها المشرقة ولياليها الحلوة". وصل عبد العزيز جعفر وكيل وزارة الاعلام لشؤون إلى لبنان ليصطاف مع عائلته الكريمة في بحمدون الضيعة، ونقلت الصحافة عنه قوله: "لبنان أجمل بلاد الدنيا، أقول هذا عن كثب بعدما زرت جميع الأقطار، حتى هاواي التي يعجز اللسان عن وصفها كفردوس ارضي، لكن لبنان يظل أجمل منها، خاصة وانه يقع في الشرق العربي الساحر". كذلك، عاد الأمير بدر بن سعود إلى لبنان، واستقبله اصدقاؤه الكثر بالنفاؤل، "وسبب التفاؤل ان الأمير الشاب ما كان ليعود إلى وطنه الثاني مع عائلته الكريمة، لو لم يكن واثقا من ان الحال باتت بأحسن حال". امتلأ لبنان بالخيم التي نُصبت في أجمل ربوعه لتقدم أشهى المأكولات وأحلى السهرات، وسجلت الكاميرا صورا لعدد من هذه الخيم في بعبدات، شملان، عجلتون، وبحمدون. انتقلت هذه الحمى إلى دمشق حيث استقبلمطعم "الجزيرة الزرقاء" في الربوة فرقة لبنانية ضمت عددا من الفنانين، منهم جورجيت صايغ، جوزيف عازار، مارون نمنم، وجورج يزبك.


بعد فترة وجيزة، أعلن الأخوان رحباني أنهما لن يقدّما مسرحيتهما الجديدة بسبب ضيق الوقت المتبقّي. هكذا "طارت اليسا من بعلبك"، وكتب جورج إبراهيم الخوري معلّقا: "الضحك على الذقون شيء والحقيقة المرة شيء آخر. الضحك على الذقون يقول: عدنا والعود أحمد، فلبنان شفي من الوعكة التي ألمت به، وعاد إلى شبابه الريان قويا، منتصبا، يهزّ الأرض بجزمته السوداء وهو يدبك في مهرجانات بعلبك. والحقيقة المرة تقول: عدنا ولكن العود لم يكن أحمد ولا أكرم ولا أكثر دبيكاُ، فقد اجتاحت المحنة كل شيء، حتى الفن وفيروز والأخوين رحباني".

في أيلول/سبتمبر، هبّت رياح الحرب من جديد، واشتعلت في البقاع، ثم في الشمال، وانفجرت في بيروت من جديد، وكان انفجارها مدمّرا. مع اشتعال وسط العاصمة، انتقلت أسواق حي سرسق إلى خارج وسط البلد، وقيل يومها: "لبيروت وجه آخر حتى لو كانت في محنة محرقة، فبينما كان يدوي رصاص المقاتلين في مكان، يدوي صوت الباعة في مكان آخر". امتد صيف بحمدون إلى الشتاء، ومدّد المصطافون اقامتهم في البلدة "حتى يفرجها الله"، و"نقلوا عفش الشتاء إلى المصيف الأنيق، وقرّروا ان يشتّوا هناك". امتلأت بيوت بحمدون بالسكان، وازدحمت طرقها، وامتدت الأسواق الطيارة على جوانبها.

طوال هذه الأيام السوداء، كان الإذاعي شريف الأخوي على اتصال متواصل بمركز الارتباط، مرشدا المواطنين إلى الطرق السالكة وغير السالكة. كما كان يتصل بالمسؤولين عن السير وجمع النفايات والكهرباء والماء والتلفون، ناقلا إليهم شكاوى المستمعين ليبادروا فورا الى اصلاح كل عطل وضرر يقع. كان الأخوي يطلّ على المستمعين بمعدل 144 مرة في اليوم الواحد، وكانت بياناته تتوالى كل خمس دقائق تقريبا، ويُذكر أن احدى المستمعات اتّصلت به وطلبت منه ان يرشدها الى طريق آمنة تقودها الى عند الكوافير "لان شعرها مفلكش، وما عاد فيها تطيق حالها"، فارشدها الى هذه الطريق.

لُقّب شريف الأخوي بـ"صوت المحنة السعيد" بين فترات البث المباشر، وبات "اخ اللبنانيين" الذي يسعى من خلال عمله الدؤوب إلى "ترسيخ الأمن والاستقرار وسبل اضاءة قنديل المحبة في لبنان". جذب هذا الصوت الأليف العميد ريمون اده، فحاول أكثر من مرة ان يقنعه بالمشاركة في اللائحة الانتخابية في جبيل نظرا لشعبيّته القوية عند الناس. ولما كان الأخوي شيعيا ومن صور، طمأنه العميد، وحدّد له الطريقة التي سيتتبعها لنقله الى جبيل. رافقت الصحافة هذا الحدث، وأضافت متسائلة: "ولكن، هل يضمن العميد بأن الانتخابات ستجري في موعدها المحدد؟".

في هذه الحقبة السوداء، ربط الإعلام بين صوت فيروز ولبنان الواحد. ذكر أنطوان بارودي أغنية للأخوين رحباني تعود إلى عام 1968، واخرجها من سياقها الأصلي ليربطها بالوضع الحالي، وقال: "عندما ارتفعت نغمات التقسيم، تقسيم لبناننا الحبيب طبعا وليس التقسيم على آلة العود، جاء نغم عبر الأثير ليحطّم النشاز ويفرض ذاته. عندما ارتفعت أمواج التقسيم وبدأت تلطم الشاطئ اللبناني، كانت هناك صخرة وقفت بالمرصاد، تكسّرت عليها كل الأمواج. هذه الصخرة هي صوت فيروز وكلمات الأخوين رحباني التي تقول: سوا ربينا/ سوا مشينا/ سوا قضينا ليالينا/ معقول الفراق يمحي اسامينا/ ونحنا سو اسوا ربينا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها