الخميس 2018/04/12

آخر تحديث: 15:14 (بيروت)

نحن و"فايسبوك" ودول عظمى

الخميس 2018/04/12
نحن و"فايسبوك" ودول عظمى
لم نرَ مراسلاً عربياً واحداً يغطي زوكربيرغ في الكونغرس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يُروى عن الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، أنه سُئل عن سياسات أميركية وغربية، فأجاب مستغرباً توجيه السؤال إليه: "دي دول عظمى يا ابني!".

وسواء كانت هذه الطرفة حقيقية أم لا، فإنها تبقى معبّرة، ولولا دلالتها الصحيحة، لما احتفظت بقدرتها على إضحاك السامعين كلّما رُويت. ففي لحظة صراحة وصدق، مكللة بخفة الظل، حتى رئيس الجمهورية في العالم العربي، يعرف حجمه حينما يذهب الكلام إلى كيفية اتخاذ القرارات بين قيادات العالم والعولمة. وفي ما يتعلق بالمسارات العالمية، فإن العرب وأقرانهم من أبناء العالم الثالث، متلقون أكثر منهم فاعلين، متفاعلون أكثر منهم صانعين.

وتحضر دعابة مبارك في الذهن، لدى متابعة مجريات جلسات الاستماع التي يخضع لها مؤسِّس "فايسبوك" مارك زوكربيرغ، في الكونغرس الأميركي، بأثر من فضيحة "كامبريدج أناليتيكا". إذ لا بد لواحدنا أن يستشعر وطأة محفوفة بالتناقضات: أشعر أني معنيّ، بالتأكيد أنا معنيّ. فهذا "فايسبوك". لي فيه صُور وآراء و"أصدقاء"، بعضهم لم أكن أعرفه قبل أن يصبح لي "بروفايل". "فايسبوك" يهمني. غالباً، هو جزء "أصيل" من يومياتي. هنا أتابع الأخبار، الخاصة والعامة. أتشاجر، أُمازح، أتلصص، وأنخرط في الغرام والنميمة والسخط والبوح. وهنا بدأتُ "الثورة"، أو عارضتها، أو نقدتها من داخلها. حتى أن ما أكتبه أو أشاركه، ههنا، قد يستصدر مذكرات ملاحقتي قضائياً.. أو اعتقالي. نعم، أنا معنيّ، بلا شك.

لكننا، بعد شيء من التدقيق، قد نكتشف أننا، على عكس الكثير من مواطنينا الفايسبوكيين في أماكن أخرى في العالم، لا نشعر بالغضب، مثلاً، أو القلق. لا نستنفر بالضرورة، كأفراد ومستخدِمين، ترقباً لنتائج جلسات الاستماع. حملة "إحذف فايسبوك" لم تخاطبنا فعلياً، رغم أننا انخرطنا في حملات عالمية أخرى، ليس أقلها هاشتاغ Me Too. احتمال كبير أن تفرز حوارات الكونغرس، قوانينَ وإجراءاتٍ مُلزمة لفايسبوك، من أجل حماية الخصوصية، لكن الخبر لا يحرضنا على توليف آراء ومواقف، ولم يفتح نقاشاً عربياً حقيقياً في تفاصيل صياغات القوانين العتيدة، وليس لنا فيها مطالَب أو مخاوف. غريب؟؟ ليس كثيراً. 

نحن، في قضية "فايسبوك" اليوم، خارجيون، رغم تورطنا الكامل في الموقع. لا يمسّنا، في العمق، كل الكلام الذي تنقله وسائل الإعلام العالمية، من داخل تلك القاعة الأميركية المهيبة. بل لم نرَ مراسلاً عربياً واحداً، يغطي أحداث الكونغرس حيث يتزاحم مراسلون ومصورون من أنحاء الكوكب على الظفر بلقطة أو أولوية خبر عاجل، وينغمس محررون ومعلقون في التحليل وتفريع القضية إلى مقالات بعشرات اللغات. هو الحدث الذي ربما يدهش بعضنا، يثير اهتمامنا وفضولنا، وينقله إعلامنا مترجماً عن الإنكليزية ببرود الواجب المهني. كأننا في صالة سينما، والفيلم خيال علمي أميركي بتقنية الأبعاد الثلاثة: حينما تُرمى قذيفة أو تتحرك سفينة فضائية ضخمة، قد نجفل أو نخفض رؤوسنا كردّ فعل غريزي أو انفعالي، نندمج في المشهد والحكاية، لكننا في حيز المشاهدة "الآمن"، وارتكاساتنا جزء من المتعة، متعة الفرجة.

في فيديو يلخص المفاصل الأبرز في جلسات الاستماع، يقول زوكربيرغ، رداً على سؤال لأحد أعضاء الكونغرس: "فايسبوك مشروع مثالي، تفاؤلي، يربط الناس بعضها ببعض، يُسمِعون أصواتهم من خلاله، يبنون مجتمعات وجماعات ويطورون أعمالهم".. ثم يستطرد معترفاً "بالأذى" الذي يمكن أن يسبّبه: "خطاب الكراهية، الأخبار المزيفة، التدخل الأجنبي في الانتخابات، وانتهاك خصوصية المستخدمين وبياناتهم".

وفي مقطع آخر، يعد زوكربيرغ بتكريس 20 ألف موظف لتدعيم إجراءات الأمان الالكتروني ومراجعة المحتوى.

ثم يأتيه سؤال آخر: "إذاً، هي تلك القصة المثيرة، من غرفة في سكن جامعي إلى واحدة من أكبر شركات العالم، وهذا لا يحدث إلا في أميركا.. أليس كذلك؟". يتلعثم مارك. "الإجابة المتوقعة هنا هي نعم!". يضحك الملياردير الشاب، والحضور في القاعة. "لا يمكن لقصة كهذه أن تحدث في الصين مثلاً"، يصرّ السائل. يحاول زوكربيرغ توليف إجابة دبلوماسية عن النمو المضطرد في قطاع الانترنت والذكاء الصناعي في الصين، لكن عضو الكونغرس يحسم: "الإجابة هي نعم، فقط في أميركا، فلننتقل إلى السؤال التالي".

وإذ يبادره عضو كونغرس آخر بأن "المؤسسة التي تصبح فائقة القوة والثروة، تخضع، في أميركا، للضوابط أو الفكفكة.. فهل أصبحتَ فائق القوة؟"، يجيب زوكربيرغ مؤكداً قبوله بالضوابط طالما أنها "ضوابط جيدة". يبدي احتراماً شديداً لاستشهادات مستجوبيه بما يُصاغ أوروبياً في هذا المجال، فيما يحاول الإضاءة على خصوصية الليبرالية الأميركية وليّ حدودها في الوقت نفسه: "عدد المسجلين في فايسبوك ملياران، معظمهم خارج الولايات المتحدة". ومع ذلك، يتناوب أعضاء الكونغرس على جَلدِه.. فهو في النهاية شركة أميركية.

ولعل في المختارات أعلاه من جلسات الاستماع إلى صديقنا الافتراضي مارك، ما يفسّر احتباسنا، نحن الملايين من العرب والعالمثالثيين، في دور اللاجئين إلى "فايسبوك"، دون رتبة المواطنين. فالمثالية والتفاؤل اللذان تحدث عنهما زوكربيرغ، هي أحلامنا والخرافات التي نرويها لأولادنا ساعة النوم. ومسالك "الأذى" التي أوردها، اعتدناها جزءاً لا يتجزأ من عيشنا، تمارسها في بلداننا الدولة والأجهزة الأمنية والنخبة السياسية والاقتصادية ووسائل الإعلام ودول الوصاية المعلنة. بل أحياناً، نمارسها نحن أنفسنا بأثر من ثقافة تربينا عليها ولم نعتَد مساءلتها. ثم منحنا "فايسبوك" بعضاً من حريته، وتلذذنا ببعض حريتنا وأوهامها.

الموظفون بالألوف، المولجون بالأمن الالكتروني، أمر دولتيّ واقع. أما المؤسسات فائقة القوة والثروة، فأصحابها هم أنفسهم رؤساؤنا ووزراؤنا ومشرّعونا وقادة جيوشنا وشرطتنا واستخباراتنا. والضوابط والفكفكة، مشاريع ثوراتنا، إن اندلعت، وحين تفشل. "فقط في أميركا؟".. أبله هذا الزوكربيرغ إذ يرتبك في الإجابة... "دي دول عظمى يا ابني!"، وربما نضيف: "اللي ما يشتري، يتفرج". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها