الأربعاء 2018/04/11

آخر تحديث: 08:43 (بيروت)

"لبن النمرة": مغامرة ترجمة الشارع الألماني

الأربعاء 2018/04/11
"لبن النمرة": مغامرة ترجمة الشارع الألماني
قارئ الرواية يجد خليطا من المفردات العامية والسوقية والشبابية
increase حجم الخط decrease
طغت قضية اللاجئين، والتدفقات التي شهدتها ألمانيا منذ العام 2015، على الأدب الذي يكتبه أبناء هذا البلد، وها نحن اليوم بعد عامين من هذا الحدث الكبير الذي تشهده أوروبا والمنطقة العربية، نتابع إرهاصات أدبية تعبر عن قضية جديدة تضاف إلى قضايا الأدب الأوروبي، ألا وهو اللجوء واللاجئين، لكن هذه المرة يكتبه أدباء أوروبا الشبان، بعدما كان المشهد قاصرا في البداية على الأدباء العرب الذين انشغلوا بثيمة "اللجوء" أدبياً.


في روايتها الأولى اهتمت شتيفاني دي فلاسكو، الكاتبة الألمانية من أصول إسبانية، بثيمة اللاجئين، لكنها لم تقدمها بصوت زاعق، بل قدمتها عبر مشاهد من حيوات مجموعة من الشباب المراهقين، الذي ترجع أصول بعضهم إلى العراق، وإلى بلدان أخرى. ندخل إلى النص، وتٌعرفنا الروائية على شخوصها من أسمائهم، لكنها لا تقدمهم لنا، تترك لنا الأحداث تعرفنا إلى هوياتهم، فنتعرف على "جميلة"، صديقة الراوية الرئيسية "نيني" ونتعرف على "أمير"، و"طارق"، و"نيكو"، وتنطلق الأحداث سريعاً بإيقاع سريع، من دون أن تهتم شتيفاني بالوصف، أو بمقدمات مملة. تترك كل شيء للسرد وللحوار. تعتمد شتيفاني دي فلاسكو، التي درست الأنثربولوجي والعلوم السياسية في بون وبرلين ووارسو، على الحوار كوسيلة أساسية وهيكل عظمي لجسد روايتها.

- محدش في ألمانيا أصلا بيجيب عيال..قريت كدا في مجلة فنستر.

- بس في العراق بيجيبوا.

ممكن أكون هناك في خلال تلات شهور.

- ليه كدا؟

- معرفش.أمي استلمت جواب من مصلحة الأجانب.


المفاجئ في هذه الرواية، أن ترجمتها تمت بالعامية المصرية، لا بالعربية الفصحى. وبعد صفحات قليلة من استهلال الرواية الذي يبدأ بتذكر "نيني" لطفولتها، تشعر أنك بحاجة إلى قراءة الصفحات الأولى، لتستوعب أنك تقرأ سطوراً بالعامية. في البداية، كأن هناك لعبة، وكأن مترجم الرواية - محمود حسنين - هو كاتبها الأصلي، بل قد تبلغ الأوهام حداً أن تقول في نفسك: لا روائية ألمانية تسمى شتيفاني دي فلاسكو. لكنك، بقليل من البحث، تجدها، وتجد حكاية روايتها في "يوتيوب"، بل تجد أن الرواية تحولت إلى فيلم، وأن غلافها يحمل صورة بطلة الفيلم العراقية "جميلة".

في الصفحات الأولى من الرواية، يدور حوار قصير بين نيني وجميلة، الشخصية المحورية الثانية في الرواية، القادمة من العراق والمهددة بالترحيل هي ووالدتها نورا، وهو ما يحدث فعلا في نهاية الرواية. بعد صفحات قليلة من الاستهلال، ندخل مغامرة شتيفاني التي لا تعد قاصرة عليها، بل وعلى طريقة ترجمة هذه الرواية، تدور أحداثها بين "نيني" و"جميلة" ومروقهما، وصخبهما الذي يجعلهما تحاولان لفت أنظار الرجال، بالجوارب المقلمة، والفانلات القصيرة، والاكسسوارات المسروقة من المحال، والتسكع الطويل في شوارع العاهرات.

تشرب بطلتا الرواية من "لبن النمرة". تمنح شتيفاني صوت الراوي الرئيسي لنيني، فتقول على لسانها مفسرة معنى عنوان الرواية: أنا باخد دايما لبن من المدرسة في الفسحة الكبيرة، لأن عندي نقص كالسيوم، اشترينا من بني السوبرماركت الرخيص إزازة براندي ماريكرون، وعصير ماركويا وعلبة لبن موللر بالكاكو. في الغالب الكاشير ما بتهتمش إننا أصغر من 18 سنة، بندلق لبن موللر في عين الحمام، لبن موللر بتاع العيال. إحنا بنشر لبن النمرة، وطريقة عمله كالآتي: بنحط شوية من لبن المدرسة، وكمية كبيرة من عصير الماركويا، وحبة كويسين من براندي مارياكرون، في علبة لبن موللر، جميلة بتقلب كل دا بصباعها، صوابعها طويلة قوي، ومليانة خواتم سرقتها كلها من محلات بمبكي.

تظهر في الأحداث علاقات متشعبة للطفلتين، اللتين تخطتا سن الطفولة، وتقتحمان المراهقة بكل جنونها، ترغبان في كسر قواعد اللغة، واللعب بالكلمات، تبديل الأحرف، أو العبث مع الكبار في وسائل المواصلات العامة، وتبادل الشتائم معهم، الشتائم المحظورة، ومنها "يا ابن النازي" تقول جميلة لنيني: فيه كام كلمة مسحورة في ألمانيا. لما تنطقيهم تقف الدنيا. نازي الدنيا تبحلق فيكي وتفضل واقفة.

تتعرف الفتاتان على "كوبس كروجر"، أحد المهتمين بحقوق الإنسان، وأطفال الشوارع في غواتيمالا. تمرر شتيفاني، من دون أن يشعر قارئها، آراء تنتقد هؤلاء النشطاء الذين يتظاهرون بأنهم يعملون من أجل الشعوب، لكنهم يعملون من أجل أهداف أخرى. يتعرف الشاب على جميلة، ويلحظ اسمها العربي، فيحاصرها بأسئلته: إنتي مش من ألمانيا؟

- من العراق

-يا سلام، بلد جميل قوي، الطبيعة والناس برضه، العراقيين كرام بدرجة فوق الوصف، لكن (وهو بيرفع السبابة) بلد بتنتهلك فيها حقوق الإنسان، وعلشان كدا جيتي ألمانيا.

تقول شتيفاني على لسان نيني: الناس دي اللي بتعمل نفسها مهتمة، وفي الحقيقة بيكونوا عاوزين يقلعوك ويعلقوك على الحيطة عشان يحسوا إن حالهم أفضل من الناس التانية، الناس دي اللي بتسأل وكأنها بتحقق معاك، وكأن جميلة أجرمت.

تنحاز الرواية طبعاً إلى جميلة وإلى أزمتها، وأزمة أمها التي تتلقى تهديدات من مصلحة الأجانب بالترحيل. تقاطع نيني، كروجر، قائلة: إيه الأسئلة الغبية دي؟ وليه بنتكلم أصلا عن جواتيمالا والعراق؟ الظلم مش حكر على البلاد دي، الظلم موجود هنا برضه، مثلا لما الناس تترحل، دا ظلم برضه.

لكن هذا المروق والتمرد على كل شيء ليس هو الوحيد، تشهد الفتاتان جريمة قتل، تروح ضحيتها زميلتهما "ياسنا". يرتكب الجريمة لاجئ آخر اسمه طارق. ترتجف الفتاتان من الرعب، تهتف "جميلة ست مرات بكلمة "أحا". كلتاهما تخشيان من أن يلحظهما القاتل، أو ينتقم منهما. كانتا تختبئان عاريتين في ممارسة طقسية تخترعها جميلة من أجل اجتذاب لوكاس إليها، وجعله يقع في حبها. فإذا بطارق وياسنا يقتربان من موضعهما، وإذا بطارق يقتل ياسنا. تتورط الفتاتان في مشاهدة جريمة القتل، ويبدأ صراع جديد في الرواية. هل تذهبان إلى الشرطة وتدليان بشهادتهما على القاتل؟ تخشى جميلة التورط لأن القاتل بوسعه أن يرتكب جريمة أخرى ضد أسرتها، هي لا تريد التورط أصلا لأنها مهددة بالترحيل. نيني تستجيب أولاً، ثم تتورط في الأحداث. تلقي الشرطة القبض على شخص آخر، أمير. يتأجج الصراع في الرواية، ويعرف أحد أعضاء الشلة من نيني أنهما شاهدتا الجاني الحقيقي، فيقرر وحده أن يذهب للقسم، ويدلي بأقواله ضد القاتل.

يختار مترجم الرواية، المصري محمود حسنين، ترجمة الرواية بالعامية. حسنين المقيم في ألمانيا، وصدر له العديد من الترجمات عن الألمانية، ومنها "نسيم الصبا" عن دار كلمة أبوظبي، و"إلى سيد ما وراء البحار" عن الناشر نفسه، وهو حاصل على جائزة معهد غوته في الترجمة فئة شباب المترجمين منذ سنوات. يكشف أسباب اختياره العامية للترجمة. قبلها شعرت أنه يرغب أن ينقل أسلوب شتيفاني سريع الإيقاع، اللاهث، غير العابئ بالوصف الطويل، الذي يعبأ فقط بالمشهدية، وبلغة الشارع. وصدقت توقعاتي حينما سألته، فيقول لـ"المدن": "الألمانية التي كتبت بها الرواية هي لغة الشارع الألماني، أو بتعبير أدق، هي لغة تحاول محاكاة لغة الشباب المتمرد عامة، والطبقات الدنيا منهم بشكل خاص".

هل تكون العامية هي الوسيط الذي يملك حلولاً لترجمة الشتائم والكلمات الخارجة التي تتلفظ بها المراهقتان؟ يبدو أن هذا كان الحل فعلاً في حالة ترجمة "لبن النمرة"، إذ يقول حسنين لـ"المدن": قارئ الرواية يجد خليطاً من المفردات العامية والسوقية والشبابية، وعلى مستوى الجمل هناك تركيبات غير فصيحة وأخطاء نحوية وركاكة، فاللغة في الرواية نابعة من خشونتها، واقترابها من لغة الحياة اليومية، وهي بعيدة عن اللغة الأدبية الفصيحة الأنيقة، وهو ما يكسبها درجة كبيرة من الصدق الفني".

ترجمة الرواية بالعامية المصرية كانت بالنسبة اليّ مغامرة، حتى أنني شعرت أن محمود حسنين هو كاتب الرواية، وليس مترجمها. لكن الأخير يبرر اختياره للعامية بقوله: "المستوى الفصيح من اللغة لن يفي مطلقاً بالترجمة، وإذا ما عمد مترجم إلى الفصاحة، وتعمد الخطأ واستخدام تراكيب ركيكة لمحاكاة أسلوب الأصل الألماني، فسيُفهم ذلك على أنه ضعف في لغة الترجمة، وينفّر القارئ من الرواية، حتى إذا فهم القارئ القصد الفني من وراء التغريب وتعمد الركاكة". ويشدد حسنين على أن لغة الترجمة لن تكون بسلاسة وعفوية اللغة الأصل للنص، إذا اعتمدت العربية الفصيحة، لهذا وجد أن العامية أنسب اختيار.


(*) تحولت رواية "لبن النمرة" إلى فيلم سينمائي، عرض في آب/أغسطس2017 في صالات أميركا وأوروبا.

(**) "لبن النمرة" صادرة عن دار "الكتب خان" في القاهرة 2018.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها