الجمعة 2018/03/09

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

هوليوود: ابتذال التنوع

الجمعة 2018/03/09
هوليوود: ابتذال التنوع
ما زال المسلمون أشراراً في فيلم "الفهد الأسود"
increase حجم الخط decrease
حين نشر هاينريش فولفلين كتابه "مبادئ تاريخ الفن"، قبل أكثر من مئة عام، لم يكن معنياً فقط بالوصول إلى مبادئ حاكمة لحركة الفن عبر الزمن، بل الأهم كتابة تاريخ للرؤية نفسها. فالفيلسوف الألماني، الذي تجاوز التأريخ البيوغرافي للفنون، وضيق نظرته الفردية، حول اهتمام القرن العشرين إلى الاختلافات في التلقي البصري، لا بوصفها موضوعاً متعلقاً بالذائقة، بل "الأساس لصورة كلية للعالم". لكن سرعان، ما فقدت المدرسة الشكلية، التي أسسها فولفلين، جاذبيتها في مجال الفنون، كما نظيرتها في الأدب، لاعتمادهما على أسس إدراكية، أهملت الاجتماعي. ومع هذا، ففولفلين لم ينبذ الاجتماعي كلية، فكلّ أنساق الرؤية بالنسبة إليه، هي نتاج تموضع إثني وقومي، موزعة في تراتبية هرمية، تحتل قمتها الفنون وطرائق النظر الغربية الحديثة، بينما تأتي فنون الشعوب الملونة في القاع، كأحافير لطفولة الغرب، وماضي طرائقه البريئة للتلقي والإدراك. 

ربما لو كان لفولفلين، اليوم، أن يعيد صياغة كتابه، الأكثر تأثيراً على الإطلاق في فلسفة تاريخ الفن، لتخلى عن هيراركيته العرقية، ولسلّم بأن صورة كلية للعالم لا يمكن كشفها بالنبش في أيقونات عصر الباروك، بل في عوالم الصورة المتحركة، وفي شاشات هوليوود تحديداً. فمنظومة الإنتاج السينمائي الأمير،كية ليست فقط المنظومة الأكثر تعقيداً وهيمنة، في إنتاج طرائق الرؤية وأنساق النظر والمعني في عالمنا، اليوم. بل هي أيضاً، وعن وعي، تسعى إلى توحيد مراتب هرم لفولفلين الإثنية، وصهر غيرها من الهويات في بوتقة صورة كلية وواحدة للعالم.

رأى فلوفلين أن حركة الفن وكذا تاريخ الرؤية، يحركهما حافز إدراكي مبطن، يسعى غريزياً نحو التطور، في خط تصاعدي. لكن هوليوود، تبدو مدركة لمهمتها الإيديولوجية، وعازمة عليها بشكل قصدي وواعي. ففي العام تلو العام، تصبح نبرة هوليوود أكثر تسييساً، وأعلى صوتاً، وأكثر مباشرة. لا في تصوير العالم، وضبط زاوية رؤيتنا لنا، بل في تغييره هو نفسه، بشكل مباشر.

في العام الماضي، شن نجوم هوليوود، حملة للدفاع عن قيم المساواة التي هددها وصول ترامب إلى البيت الأبيض. ومن هناك أيضاً انطلقت حملة "أنا أيضاً"، في مواجهة التحرش الجنسي بالنساء. تحاول السينما الأميركية أن تكفر عن ماضيها، فالعام الماضي كانت لدينا "امرأة خارقة" على الشاشة، وقبل أسابيع بدأت السينمات عرض "الفهد الأسود"، ليمسي لدينا عالم خارق من الرجال والنساء سود البشرة، حصراً، للمرة الأولى. سياسات الهوية والتنوع صارت طقساً عقائدياً في حفلات الأوسكار. فرانسيس ماكدورماند، في كلمتها لقبول جائزة أفضل ممثلة، تلقي خطبة حماسية عن الحاجة إلى تغيير منظومة العمل في هوليوود لصالح المرأة، بدلاً من مجرد الاكتفاء بـ"مبادرات التنوع". الفيلم التشيلياني "امرأة رائعة"، يفوز بجائزة أفضل فيلم أجنبي، إنصافاً لقضية المتحولين جنسياً. يقف الممثل ويس ستودي، ليلقي كلمة قصيرة في الحفلة، بلغة قبائل الشيروكي، بالطبع يجب أن يكون لسكان أميركا الأصليين مكان في لوحة التنوع واحتفاليات الهوية.

إلا أن كلمة ستودي، كانت تمهيداً لعرض عن تصوير الحرب في السينما. ولم لا؟ ففوز "دنكيرك" و"الساعة الأكثر ظلمة"، بجوائز هذه الدورة، جعلاها دورة للحرب عن استحقاق. يتهاوى الخيط الرفيع بين الواقع والتمثل هنا، بين الحرب وصورتها. ذلك أن ستودي في كلمته لا يخبرنا عن أفلامه عن الحرب، بل عن خوضه حرباً حقيقية في صفوف الجيش الأميركي. يعرب ستودي عن فخره بخدمته في فيتنام، ويصفق له الحضور بكل حماس. 

نعرف أيضاً أن بطلة فيلم "المرأة الخارقة"، لم تكن في عالم الواقع سوى مجندة أخرى فخورة بخدمتها في جيش الاحتلال الإسرائيلي. وأنه، في عالم متخيل بالكامل، يسعى إلى تحطيم كل قواعد التراتبية العرقية، ما زال المسلمون أشراراً في فيلم "الفهد الأسود"، والسي آي إيه تقف وراء قوى الخير. لا تنحصر مشكلة سياسات التنوع في السينما الأميركية، في ريائها، ولا في مجرد توظيفها لقيم المساواة والعدالة لترسيخ صورة واحدة وكلّية للعالم، ونسق موحد للرؤية، بحسب المشروع والحلم الأميركي. فهوليوود، في تخليها تدريجياً عن الآلية الأيديولوجية الأكثر فاعلية للفنون، أي ضمنيتها وتعميتها على الجانب السياسي في مضمونها، وفي تحولها إلى الخطابة المباشرة والرثة، تبتذل أكثر فأكثر، قيماً تحررية ومساواتية جديرة بالدفاع عنها، لنجد أنفسنا في النهاية مضطرين لأن نهاجمها، وفي أفضل الأحوال الدفاع عنها على مضض. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها