الثلاثاء 2018/03/06

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

"القضية 23": غياب شارون كخلل بصري وسياسي

الثلاثاء 2018/03/06
"القضية 23": غياب شارون كخلل بصري وسياسي
زياد دويري ونجوم فيلمه خلال المشاركة في حفلة الأوسكار2018
increase حجم الخط decrease
أوصلت الجرأة فيلم "الاهانة" إلى ترشيحات الأوسكار، لكنه ما زال يعاني خللاً أساسياً في الحبكة والدراما، خصوصاً التناقض بين الغياب البصري لآرييل شارون و"الإبادة"، وبين تمددهما كلامياً في الفيلم.


بداية، ثمة تهنئة مستحقَّة لأول فيلم لبناني يصل إلى ترشيحات الأوسكار، وقبلها تهنئة على الجرأة في تناول مجزرة في لبنان، مع الاعتراض على غياب أدّى إلى تشوّه الفيلم وحدثه الرئيسي الذي تمحورت حوله حبكة الفيام والإيقاع الفني لحوادثه، بل مجمل صنعة الدراما فيه. وكيف لا يعرج الفيلم، إذا كانت النقطة المركز فيه، حدثاً لا يحضر بصريّاً على الإطلاق في الشاشة؟ كيف تتراكم دراماتورجيا الحوادث والشخصيات، إذا كان ركنها الأساس غائباً، فكأنها تستند إلى خواء؟

في الفيلم، لا عبارة تتردد أكثر من "ياريت شارون أبادكم عن بكرة أبيكم"، وينطقها للمرة الأولى طوني حنا (أدّى دوره عادل كرم) صريح الانتماء فكراً إلى "القوات اللبنانية"، في وجه الفلسطيني ياسر سلامة (كامل الباشا)، فتكون كافية لإحباط مسعى مصالحة لإنهاء خلاف سابق بينهما. تكفي تلك العبارة لاستفزاز سلامة إلى حد توجيه لكمة إلى حنا الذي يطالب بعدها باعتذار، لا يناله مباشرة، فيلجأ إلى القضاء مسجلاً ملفه بإسم "القضية 23". وتتكرر تلك العبارة عن شارون و"الإبادة"، مراراً، على ألسنة معظم شخصيات الشريط السينمائي. ويُظهِر الفيلم تلك العبارة بوصفها أمراً مسيئاً ومستفزاً ومرفوضاً، حتى ممن يؤيدون حنا الذي يصبح مُداناً نسبيّاً بسببها، فيسعى الى التخلص من تأثيرها في "القضية 23" في المحاكم. وتكون العبارة نفسها محوراً لكل الحضور الفني المرئي- المسموع لمكتب المحاماة الموالي لـ"القوات اللبنانيّة" الذي يرأسه المحامي وجدي وهبي (كامل سامح)، بل يرى أن تفنيد تلك العبارة هو أساس الدفاع عن حنا في المحكمة، لأن تلك العبارة تعتبر إهانة صريحة لسلامة الفلسطيني المقيم في لبنان. وتدور معظم السجالات القانونية في المحكمة حول عبارة شارون و"الإبادة"، بل يُظهر الفيلم أنها تقدر على استفزاز فلسطينيين ومؤيديين لهم، وصولاً إلى التظاهر. المفارقة الفنية المذهلة هي أن شارون لا يبان في الفيلم كله، ولا شيء يشرح - بصريّاً وفنياً - تلك "الإبادة"!

الأرجح أن الامر يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبت في سياق الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي قاده الجنرال آرييل شارون في العام 1982. لا لقطة، ولا لثوانٍ، عن الاجتياح. لا تحضر مجزرة صبرا وشاتيلا، بصرياً في الفيلم، على الإطلاق، بل تغيب حتى لفظاً وكلاماً.  

لا مساواة بين الضحيتين
في المحاكمة، يستحضر المحامي وهبي مرافعته على الشاشة، بلقطات لمجزرة الدامور التي توصف بأنها ارتكبت من قبل مسلحين فلسطينيين ويساريين لبنانيين. وتحضر لقطات من ذاكرة حنا، هارباً مع والده لينجو من تلك المجزرة. ويختتم المحامي مرافعته بعبارة يرفض فيها إخفاء مجرزة "القريب" والتشديد على مجزرة "الغريب". لكن، وفي مفارقة وسقطة فنية فائقة الوضوح، فإن هذا بالضبط ما يفعله الفيلم.. بصيغة معكوسة! إذ يُبرز بصرياً مجزرة "القريب"، لكنه يخفي كليّاً مجزرة "الغريب"!

من خارج النقد الفني المباشر للفيلم؛ وإن ليس خارج التناول النقدي؛ يحضر في الذاكرة تصريح لزياد الدويري في مقابلة مع مجلة "لها" بُعيد إطلاق فيلمه على شاشات لبنان. في تلك المقابلة، أوضح الدويري أنه كمخرج (وأيضاً ضمن موقفه الشخصي) يميل إلى تبني موقف المحامي وجدي وهبي، لأنه يرى في ذلك توازناً. أين التوازن في إبراز مجرزة مخزية ومؤلمة كالدامور (وهي في الفيلم سندٌ مرئي- مسموع للحضور الفني لشخصية حنا، بوصفه ضحية مجزرة)، في مقابل غياب كلي وصمت مطبق عن شارون ومجزرة صبرا وشاتيلا؟ هل لذلك علاقة بضلوع مُرَجَّح لـ"القوات اللبنانية" تحت قيادة إيلي حبيقة بتلك المجزرة التي ارتكبها، في المعنى الذي استحضره الفيلم، أي "الغريب" و"القريب" سويّة؟


بالعودة إلى النقد الفني للفيلم، أدى غياب شارون ومجزرة صبرا وشاتيلا، إلى خلل بين شخصيتي الفيلم المحوريتين، بل هما محور التركيب الدرامي للفيلم بأكمله. نجح الفيلم تماماً في استحضار الدامور من اللقطات الأولى، كما في الحوار بين حنا وزوجته شيرين (ريتا حايك) على شرفة منزلهما في الأشرفية، وصولاً إلى اللقطات الختامية للفيلم في المحكمة، بما فيها لقطات ذاكرة الحرب من الدم المسفوك في الدامور. هناك تراكم درامي واضح، يصل إلى ذروة مؤثرة في مشاهد المجزرة وذاكرتها في المحكمة. لا شيء يوازي ذلك لدى الشخصية الاخرى، التي تشير القاضية كوليت منصور (جوليا قصار) إلى أنه ضحية "مساوية" للداموري حنا! فأين التساوي بصرياً وفنياً؟ حتى الحرب في الأردن 1970، والتي تستخدم المحامية نادين وهبي تعبير "أيلول الأسود" في وصفها، لا تحضر بصرياً، بل ان ما يحضر على الشاشة هو جندي أردني مقعد على كرسي بسبب رعونة الفلسطيني سلامة!

اعتراف شخصي: المجازر لا تخدم قضايا الشعوب
هناك اعتراف شخصي، يصعب تجنبه. كنتُ - شخصياً - ممن اهتزت قناعاتهم بشدة، بسبب مجزرة الدامور. لم أكن سوى جزء من مجموعة شبابية (من بينها الشاعر الراحل بسام حجار) منتمية إلى "الحركة الوطنية" والمقاومة الفلسطينية، لكن قناعاتنا هزتها أمور كثيرة، كانت نقطتها الأشد وضوحاً هي مجزرة الدامور. بدا مستفزاً تماماً أن يؤدي "النضال ضد الصهيونية والامبريالية"، إلى مجزرة طائفيّة مزرية. لاحقاً، ساد في كتابات يسارية ومُقاومِة نقد لتلك التجربة، خصوصاً الانزلاق إلى مستنقع الاقتتال الطوائفي والمذهبي. وعندما توفي ياسر عرفات، كتبتُ مقالين متتالين في صحيفة "السفير"، في نقد تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، خصوصاً تلك المجازر الطوائفية التي لم تكن الدامور وحدها فيها، ولم أقبل المنطق الطوائفي ("المجزرة والمجزرة المضادة") في تبريرها.

بالعودة من تلك الزاوية إلى الفيلم، يحضر سؤال عن شخصية الداموري- القواتي، وهو سؤال آت من وقائع، بينها تصفية ميليشيا كانت محسوبة على زعيم داموري (داني شمعون، هو نفسه جرت تصفيته)، بواسطة أيدٍ تحيطها شكوك بأنها منتمية إلى "القوات اللبنانية". 

نعم. يحتاج لبنان أفلاماً بمثل هذه الجرأة، بل أبعد تبصراً (مع تملكها وعياً وواقعية أعمق، لتتجنّب تشوّهات فيلم "الإهانة")، كي تنتقل حروبه ومجازرها من المكبوت المتعصب، إلى الوعي التاريخي الفعلي. وبنظرة أوسع لمجريات التاريخ المعاصر والماضي عربيّاً، يمكن القول بأن السينما العربيّة كلها تحتاج جرأة متعمِّقة للنهوض بأشرطتها البصرية إلى مستوى تكون فيه تمثيلاً فنياً فعلياً لمجتمعاتها وتاريخها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها