السبت 2018/03/31

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

الموريسكيون في ثلاثية غير مقصودة: الضحية تكتب تاريخها

السبت 2018/03/31
الموريسكيون في ثلاثية غير مقصودة: الضحية تكتب تاريخها
مأساة المورسكيين تحيل إلى حالة ستتكرر لقوم سيطردون
increase حجم الخط decrease
ثلاث روايات ظهرت مؤخرا تتناول مأساة المورسكيين، وهم المسلمون الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس، وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو التهجير، هم الذين مارسوا عباداتهم سراً، وواجهوا التعذيب ومحاكم التفتيش ثم الشتات فيما بعد، في مأساة لا تزال آثارها باقية حتى الآن.


الروايات صدرت في وقت متقارب، وقرأتها كثلاثية غير مقصودة، خاصة وأن كل واحدة منها تطرح تاريخ عائلة ما من العائلات الموريسكية التي عاشت المأساة بشكل أو بآخر، لكن الملفت أن الروايات الثلاث تطرح الكثير من الأسئلة عن علاقة الرواية بالتاريخ، وتستدعى إعادة النظر في الرواية ليس بوصفها مجرد وعاء حاويا لتاريخ ما، لكن كمعيدة لاستكشافه، ومعمقة لوجوده، لمساءلته وكشف أخطائه، وأيضا لتوظيفه في خدمة الحاضر.

في الصفحات الأخيرة من روايته "حصن التراب"، يورد الروائي المصري أحمد عبد اللطيف، بعض المراجع التاريخية التي اعتمد عليها في كتابة نصه بجانب الزيارات الميدانية، بينما يشير إليها المغربي حسن أوريد في الصفحات الأولى من روايته "الموريسكي"، في حين اختار المصري صبحي موسى أن يحجبها تماماً في "الموريسكي الأخير" مفضلاً الاحتفاظ بالإيهام، ومد الخيط الروائي لآخره.

لكن ما الرواية وما التاريخ وما الذي يستطيع كل منهما صُنعه في الآخر؟

يتساءل بطل رواية عبداللطيف عن جدوى البحث في التاريخ، يقول: "إلى أي مدى سيفيد النظر إلى الوراء، وهل باقتفاء الأثر تسترد الأقدام المبتورة؟" لكنه رغم ذلك يتبع وصية والده، ويتسلم إرثه الثقيل "أكتب، كما كتبوا وسيكتبون، لأن الذاكرة أطلال، والكتابة ترميم". يستكمل النظر إلى الوراء بحثاً عن بقايا عائلة محمد دي مولينا، عائلته التي أنهكها البحث عن جذورها "أدركت الآن سر التواء رقبة عائلاتنا"، لكنه رغم ذلك لا يكتب للتأريخ، يفضل أن تسري حكايته بين الناس، أن تروى كحكاية شعبية، ترويها الجدات للأحفاد، يرويها الصبية فيما بينهم في ليالي الظلام والإفك "فللتاريخ أهله وكتبه وكتبته، وللذاكرة أهلها وحكاياتها".

بطل حسن أوريد كان أكثر واقعية، ربما لأنه عاين المأساة بنفسه، كان غارقا فيها، كان يعرف أن "للتاريخ طرق ملتوية، وله أسرار لا يدركها إلا هو" لذا كان الحكي بالنسبة له فعل مقاومة وأمل أخير "أقاوم بحفاظي على ذاكرة أهلي". سجل شهادته كحكاية فرعونية على جدار، ربما يتمكن أحدهم من فك شفرتها في يوم ما" في يوم ما لن نكون من هذا العالم وينبغي لأحد أن يقدم شهادة عنا. تعرضنا للثلب من كلا الطرفين. كنا بالنسبة للقشتاليين مسيحيين سيئين، ونحن مسلمون سيئون بالنسبة لبعض المورو(المغاربة)، ولم يتح لنا في الحالتين، أن نعبر عن أنفسنا".

لكنها ليست مرثية، أو مجرد سرد لتاريخ عائلي، هناك أيضا إشارات يمكن إحالتها لأي زمن "سلاطين أشداء ذوو بطش ومكر، سيعيدون حرفيا تقنيات حكمه بحماس وإقدام متفاوت. وفي جنون عظمتهم سينسون حكم التاريخ كما لو أنهم خالدون" يقول بطل الرواية مختتما: "مات بابا أحمد لكنه ترك نمطا من الحكم سيبقينا دوما كرهائن".

وإن كانت روايات عبد اللطيف وأوريد تحمل رموزا وإشارات يمكن إحالتها للزمن الحاضر أو المستقبلي، فإن صبحي موسى يورط أحد المورسكيين في مصر وثورتها وواقعها العبثي، رابطا بين الماضي المفعم بالألم، والحاضر الذي كان مشبعا بالأمل.. وعلى عكس العملين السابقين، بحث التاريخ عن بطل الرواية هنا، وجدته العين الراعية، لتذكره بمأساة الأجداد، ومعاناة الأحفاد، ولتورطه في القضية التي كان يتعمد نسيانها.

تطرح الروايات ثلاث معالجات للمأساة نفسها، تنساب المعلومات التاريخية على لسان أبطال حقيقيين ومتخيلين، تربط الماضي بالحاضر، تنفخ الروح في القضية، تعيد تجسيدها، ليس بحثا عن حق أصحابها فقط، بل لتسلط الضوء على قضايا كثيرة مشابهة، ومذكرة بكل ضحايا الشتات في منطقتنا المنكوبة، مؤكدة على صيحة عبدالله دي مولينا فى حصن التراب: أنظروا إلى أعمق مما ترونه على السطح، فحقيقة الأشياء ليست كما تبدو عليه.

هنا شهادات لأصحاب الروايات الثلاث، تجيب على الكثير من الأسئلة حول الرواية والتاريخ، وظروف الكتابة وأغراضها...


أحمد عبد اللطيف: الرواية تقوض التاريخ الرسمي

تاريخية هي الرواية التي تتناول حدثًا تاريخيًا، بالتالي حقبة تاريخية أو شخصية تاريخية. بهذا التعريف، تعتبر رواية "حصن التراب" رواية تاريخية، لأنها تسلط الضوء على تحولات المسلمين من أندلسيين لمدجنين لموريسكيين في فترة أفول الحضارة الإسلامية في الأندلس، وانتهاءً بطردهم النهائي وتشريدهم في بقاع الأرض. الموضوع مطروق، سواء من كُتّاب عرب أو إسبان، لأنه تمثيل للقتل على الهوية الدينية والتطرف الديني وتزاوج السلطة السياسية والدينية على مدار التاريخ. وكانت محاكم التفتيش التمثيل الأكبر، والصورة الأيقونية لهذا العنف. لكن داخل الصورة العامة والمعروفة، هناك التعدد في وجهات النظر، سواء من المؤرخين الذين سجلوا الحدث التاريخي، أو من الروائيين الذين تناولوا الموضوع.

رأيي أن التاريخ يعمل على وثائق رسمية كتبتها السلطة، فيما تعمل، أو يجب أن تعمل، الرواية التاريخية على تناقضات هذا التاريخ ذاته، ليس من أجل ملء فراغاته، بل من أجل تقويضه. في الحالة الموريسكية، لاحظ أن السلطة الإسبانية هي من سجّلت التاريخ وكتبت الوثائق، أولًا لأنها السلطة، ثانيًا لأن التراجيديا وقعت في أراض إسبانية. لكن التاريخ المروي بأقلام إسبان في تلك الفترة، وهو التاريخ المعتمد بعد ذلك، لا يمكن لروائي أن يثق فيه، وإلا تبنى بالضرورة وجهة نظرهم. من هذا المنطلق كتبتُ "حصن التراب"، مستفيدًا من كتب التاريخ المكتوبة بالإسبانية والوثائق مثل وثائق محاكم التفتيش، لكن لأروي تاريخًا آخر غير مكتوب، ولأتبنى وجهة نظر هي خلاصة معرفتي ونتائجي، وشديدة الالتصاق بالأسئلة التي طرحتها ما بعد الحداثة حول التاريخ. سأشير هنا لنقطتين: أولًا أن التاريخ الموثوق فيه يرجع للمؤرخ الإسباني "كاراباخال"، وكتبه حين كان جنديًا في القوات الإسبانية، ثانيًا عدم العثور على وثائق تاريخية كتبها الموريسكيون أنفسهم. من ناحية أخرى، عمل المؤرخون الإسبان الذين ينتمون إلى الحداثيين على التشكيك في دعاوي السلطة الكاثوليكية التي طردت المسلمين، وبدت لهم مجرد ذريعة للتخلص من المسلمين كأبناء دين مخالف لدين السلطة، من هؤلاء المؤرخين أميركو كاسترو الذي تتلمذ على يده الروائي والمستشرق خوان غويتيسولو.

إيجازًا، "حصن التراب" عملت على صنع تاريخ متخيل، هو أحد "التاريخات" الممكنة، ويملك من القوة التاريخية ما يملكه التاريخ الرسمي نفسه. لاحظ أن كلمة historia  تعني حكاية، وكلمة Historia تعني تاريخ. نفس الكلمة تعني المعنيين مع اختلاف شكل الحرف الأول. بالنسبة لي، التاريخ مجرد حكاية قابلة للتصديق والتكذيب.

هذا على مستوى المضمون، أما على مستوى الشكل، فبما أني انطلقت من وجهة نظر ما بعد حداثية في التعامل مع المادة التاريخية، فالشكل كان يجب أن يكون ما بعد حداثي أيضًا، أقصد: بنية متشظية، رواية تتطور بالعرض وليس بالشكل العمودي، وتقوم على حكايات صغيرة متفرقة بجمعها تتشكل صورة كلية. الشكل والمضمون يتعرض بالأساس لفكرة "نسبية الحقيقة"، ما من حقيقة مطلقة، وبالتالي فالتاريخ ليس إلا أحد النصوص التي تقبل التجاور مع نصوص أخرى، والنصوص الأخرى تكتسب نفس الأهمية حتى لو انطلقت من الخيال لتصل إلى الواقع. من هنا كانت الرواية، مثل رواياتي الأخرى، تنطلق من وراء الواقع لتصل إلى الواقع نفسه، الهدف هو الواقع وقراءته وطرح تصور عنه.

هذه الصيغة التي كتبت بها الرواية هي الأنسب بالنسبة الي والمتسقة مع رؤيتي للتاريخ، والحقيقة أني أستغرب من الروايات التاريخية التي تعامل الوثائق بثقة فتتحول من رواية تاريخية إلى كتاب تاريخ، مثقل بالوثائق والمراجع كأن هدفها تأكيد المؤكد وليس نقده والتفكير فيه. تخيل الآن عشرة مؤرخين يكتبون عن ثورة يناير، هل تدرك كم التناقض والكذب والتزييف في كتابة كل منهم؟

بالتأكيد يمكن قراءة الرواية على ضوء ما آل إليه الربيع العربي من تزايد في التطرف الديني ووضع الطائفية في الواجهة، وهي قراءة محقة لأن استدعاء التاريخ لا بدّ أنه يتلاقى مع سياق اجتماعي وثقافي نتج فيه عمل فني، لكني من ناحية أخرى أفضّل قراءة الرواية في معناها المجرد كتصور للتاريخ البشري ومحاولة لفهم الثقافة الإنسانية، بهذا المعنى فالرواية تقدم تصور مؤلفها للعلاقة الخاطئة بين السلطة السياسية والدينية، وتؤرخ لتاريخ الدم ومحاكم التفتيش، ليس من وجهة نظر فاعليها، إنما من وجهة نظر ضحاياها. أخيرًا، هي رواية عن نسبية الحقيقة وتتبع المصائر. 
(*) صدرت "حصن التراب.. حكاية عائلة موريسكية" عن دار العين.



صبحي موسى: 
عين على التاريخ وأخرى على الحاضر

 

بعد "صمت الكهنة"، و"أساطير رجل الثلاثاء"، و"الموريسكي الأخير"، أكاد أكون صرت متخصصاً في الرواية التاريخية، ولدى فكرة عن العلاقة بين التاريخ والواقع الراهن، فكرة شرحتها أكثر من مرة في أكثر من مكان، وهي أن التاريخ يشبه العقل الباطن للأمم، ولحل مشكلاتنا الراهنة فعلينا البحث في العقل الباطن عن جذورها، وإعادة قراءتها وتحليلها من جديد، ووفقاً لهذا المنهج فقد ربطت بين الماضي والحاضر في مختلف كتاباتي التاريخية، ومن بينها "الموريسكي الأخير".

في الموريسكي سعيت للربط بين ما حدث للموريسكيين في الأندلس ووصول جماعة دينية للحكم في مصر، فالحكم على أساس ديني أيا كان هذا الدين سوف يأتي بكارثة، وهو حدث قديما في الأندلس عقب سقوط غرناطة عام 1492، فقد قرر فرناندو وإيزابيلا فرض الكاثوليكية على الجميع، وانتهى الأمر بحدوث صراعات جمة بين بقايا المسلمين الذين كانوا يحكمون البلاد، وبين الأسبان أو القشتاليين المتشددين في فرض كاثوليكيتهم، هذه الصراعات أحدثت ثلاث ثورات كبرى، قامت في إحداها دولة للموريسكيين لمدة ثلاث سنوات على جبال البشرات، لكنها هزمت وهُجّر أصحابها جميعاً إلى أماكن في الشمال ليذوبوا بين أهلهم، لكنهم أحدثوا مزيداً من الثورات والقلاقل التي انتهت بانتزاع آلاف الموريسكيين من بيوتهم وقراهم وحملهم إلى المناطق الساحلية كالجزيرة الخضراء وجبل طارق ووضعهم على سفن أسبانية ومغربية وعثمانية لتلقي بهم على الشواطئ الجنوبية للمتوسط في المغرب والجزائر وتونس.

كانت لديّ رغبة في التأكيد على كارثية الفعل الذي ما تزال آثاره باقية إلى الآن، نبهني إلى أهمية الكتابة عن المشكلة الموريسكية أمران، الأول كان في التسعينات حين مر خمسمائة عام على سقوط غرناطة، وكانت التيارات الإسلامية قوية في الجامعة (كنت في الجامعة وقتها)، وأخذوا يخطبون بهذه المناسبة مرات ومرات، كان ذلك أول انتباه للتساؤل عن الأندلس التي اقترنت بالقدس، وظل الأمر في ذهني ما بين البحث والدراسة، الأمر الثاني كان منح وزير العدل الأسباني الجنسية للموريسكيين اليهود (وهم أيضاً أعلنوا كاثوليكيتهم وأخفوا دينهم في قلوبهم كما فعل المسلمون، لكن تعداد المسلمين كان أكبر ومشكلتهم أوضح لأنهم الحكام السابقين للبلاد فضلاً عن كونهم العرب الغزاة)، كان ذلك في عام 2012 على ما أتذكر، لكنه جعلني أفكر في الكتابة عن ضرورة رد اعتبار الموريسكيين المسلمين والاعتذار لهم ومنحهم حق العودة أو الجنسية الأسبانية، فما حدث هو واحدة من الجرائم الكبرى في التاريخ الإنساني، ولا تقل كارثية عما حدث للهندي الأحمر في بلاده.

ثمة أمر آخر حاولت أن أنبه إليه وهو أن الجميع يعتقد أن الموريسكيين انتهوا عقب الطرد، وهو ما ليس صحيحاً، فثمة بقايا لهم عادت إلى ما يعرف الآن بإقليم الأندلس، وبدأت في نضالها من أجل الاستقلال، وهو نضال طويل استمر نحو أربعة قرون، وفي النهاية حصلوا على استقلالهم في إطار حكم كونفدرالي للبلاد ككل.

في هذه الرواية كرست جانباً مهماً لرصدت الثورات المجهضة سواء في زمن هشام المؤيد أخر خلفاء بني أمية بالأندلس، أو عقب طرد الموريسكيين من الأندلس، سواء ثورة طاهر الحر الذي كاد أن يستقل بالإقليم أو قادس التي طردت الفرنسيين من البلاد أو حتى جهود بلاس انفانتي الملقب بأبي الهوية الأندلسية في أسبانيا.

كانت عيني دائماً على ما يحدث في مصر، وتنامي صعود الإسلام السياسي، خاصة وأنني بعد روايتي "أساطير رجل الثلاثاء"، ودراستي لهذه الجماعات وسعيها الدؤوب للتكوين دولة خاصة بها، أصبحت شبه متخصص في الإسلام السياسي، ومن ثم حاولت بشكل مختلف استكمال ما وقفت عنده في رجل الثلاثاء، محاولا في الموريسكي الربط بين وصول هذه الجماعات للحكم وما حدث للموريسكيين من كوارث بسبب وصول مشابه من قبل الكاثوليك، وأننا جميعاً قد نواجه هذا المصير المرير بشكل أو أخر على يد الحكم باسم الدين.

حاولت أن أقول أن الموريسكي ليس شرطاً أن يكون المسلم الذي يخفي إسلامه، لكنه كل مغترب في وطنه، ومن ثم جاءت الرواية كصرخة للدفاع أيضا عن حقوق الأقليات.
(*) صدرت "الموريسكي الأخير" عن الدار المصرية اللبنانية.


حسن أوريد: الرواية تملأ فراغات التاريخ

كنت وقعت قبل عشر سنوات ونيف على آخر نص وصلنا مكتوب باللغة العربية من قبل من يسمون بالموريسكيين وهم الأندلسيون الذي طردوا عقب قرار الملك فليب الثالث سنة 1609، بعنوان "ناصر الدين على القوم الكافرين"، لشهاب الدين أفوقاي، وهو نص كان كتبه في القاهرة عقب قدومه من الحج، وتوقفه في الأزهر، وإجازته من قبل العلامة الأجهوري الذي انتدبه كي يشهد على قومه وما تعرضوا له من أذى. ضاع النص الأصلي، ولم يبلغنا منه إلا مختصر كتبه بتونس وهو النص الذي اعتمدته في كتابة روايتي الموريسكي.

كان ما يهم الفقيه شهاب الدين هو أن يدحض خطاب المسيحية، والقيمين عليها. كان قد كتبه في خريف عمره، ولذلك كان الجانب العقدي، أو فلنقل الثويولجي طافحا بل غالبا. لم يحمل الكتاب عمق المأساة التي تعرض لها المسلمون  والمسيحيون الجدد  وهم المسلمون الذين تنصروا، في الأندلس إلا في صورة مقتضبة. وقف في رحلته إلى كل من فرنسا وهولندا وقد انتدبه السلطان المغربي للتعريف بمأساة الأندلسيين إلى ما تخلل هذين الرحلتين من سجالات وحوارات عقدية وثيولوجية.

كان نص شهاب الدين مادة مفيدة وشهادة فريدة، ولكنه يحمل كثيرا من البياضات رأيت لزاما أن أملأها، ولم يكن هناك من أداة سوى التخييل الروائي، كان من الضروري أن أذكّر بسياق الطرد، ولكي أفعل كان علي أن أقرأ ما كُتب عن الموضوع في الأدبيات الغربية. الكتابات العربية شحيحة، وقلما تقف على أوجه المأساة، والسبب يعود إلا أن أغلب ما كُتب، حين نزح الموريسكيون كُتب بالقشتالية (اللغة الاسبانية القديمة) أو الخيمادو وهي قشتالية مكتوبة بحروف عربية، وضاع أغلبه، إلا من بعض الأشعار. وأوفى نص بالعربية هو لمتحدر من الموريسكيين لمحمد قشتليو، وقشتلو تعني القشتالي، وهو مغربي آلى على نفسه أن ينقل مأساة ذويه.

وقع الطرد سنة 1609، إلى غاية 1614، وصادف قبل ثمان سنوات الذكرى الأربعمائة، وبقدر ما عرفت الكتابات والمناظرات في اسبانيا حول الموضوع زخما، بقدر ما كان هناك شبه غياب في الكتابات العربية.

كان هذا هو السياق الذي استحثني أن أكتب عن الموضوع، وكتبت عملي باللغة الفرنسية كي يسهل ترجمته للغة الاسبانية لأني أردته حوارا مع اسبانيا بالأساس، إلا أنه عرف إقبالا كبيرا حين تُرجم إلى العربية، سواء بالمغرب أو خارجه، مع عدة طبعات.

الرواية لا تنصرف إلى التاريخ، ولو أنها توظف التاريخ، تستوحيه من أجل طرح قضايا آنية. فمأساة المورسكيين تحيل إلى حالة سوف تتكرر لقوم سوف يطردون من أرضهم ويعيشون الشتات والضياع، ومنهم الفلسطينيون والبوسنيون. الرواية تحيل لصدا الحضارات وضرورة تجاوز حالة الاحتقان من  خلال الاعتراف بالأخر.
(*) صدرت الطبعة المصرية من "الموريسكي" عن الهيئة العامة للكتاب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها