الجمعة 2018/03/30

آخر تحديث: 11:12 (بيروت)

عبد الحليم حافظ.. لماذا لا يغيب العندليب؟

الجمعة 2018/03/30
عبد الحليم حافظ.. لماذا لا يغيب العندليب؟
الكلمة الآتية من طبقات أعمق وأخصب من الحنجرة
increase حجم الخط decrease
مع نهايات مارس/آذار من كل عام، تتجدد الأحاديث عن عبد الحليم حافظ (1929-1977)، طنانة، واثقة، باذخة المنطق. يختلق المعجبون مناسبة يصفونها بذكرى الرحيل، ثم يطلقون سؤالًا باتجاه معاكس: لماذا لا يغيب العندليب؟

هم يقولون عنه ما يجب أن يقال، ربما، أكاديميًّا وفنيًّا وشخصيًّا، مع إنشائيات أيضًا، وبلاغات، وذكريات وصُور مع هذه وذاك، وقصاصات من وثائق وصحف، ثم "لازمة" ضرورية يختتمون بها سيلهم الهدّار، لتوضع مثل كليشيه أو كشاهد قبر على القلوب وهم يكررونها ببرودة وتحجُّر: "الذكاء.. الذكاء".

تختلط هذه الأصوات كل عام منتجة فقاعاتها الثقيلة، المفتعلة، المحنطة، ويجدها محبو حليم تخص قائليها، وتشبههم، ولا تخص الصوت الذي أحبوه ويشعرون دائمًا بأنه يخصهم من غير كلام، و"هل كلامُ العبادِ في الشمسِ إلا أنها الشمسُ ليس فيها كلام"، كما قال شوقي؟

صوت عبد الحليم حافظ، المختلط بأنفاس عشاقه، لا يصلح لأن يقال عنه، لأنه ببساطة لم يقل شيئًا عن المعاني والمشاعر الإنسانية، إنما "كانها" مثلما هي، ولم يصف هذا الصوت المفعم بالحياة الحياة، إنما قدّم ماهيّة هذه الحياة كأغنية في حالة سيولة، هو المتسائل بلسان إيليا: "متى تعرف ذاتي كُنه ذاتي؟".

القول "عن" عبد الحليم، أيًّا كان، هو خارج ظاهرة العندليب، أما بمنطقه هو، فالقول "في" عبد الحليم قد يكون غير مستحيل، بشرط وحيد، هو أن يكونه هذا القول، ولو بقدر، مثلما كان هو الملايين، وما أصعب المهمة، وما أندر من تصدوا لها.

بالحدس والشفافية يفطن عشاق العندليب إلى أنه صوت استثنائي مغاير، وحالة بالغة الندرة من حالات زعزعة الاستقرار، والتزحلق فوق الثوابت، والتفرد ليس فقط بالإتيان بجديد، بل بأن يعاد التأريخ بالقياس إلى بزوغ نجمه، فيقال: الغناء والموسيقى قبل وبعد عبد الحليم.

حديث صوتي مسجّل للعندليب، أذيع مؤخرًا في إحدى القنوات، يبرز بوضوح أنه كان يعلم جيدًا ماذا يفعل، ويدرك حجم المسؤولية الملقاة عليه لتغيير مفهوم الغناء، وتطوير الأداء الموسيقي، من خلال الظهور المختلف المستقل.

قارن حليم في حديثه بين بداياته في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وبدايات المطرب الصاعد هاني شاكر وقت تسجيل الحديث في منتصف السبعينيات. أثنى حليم على إمكانات صوت المطرب الناشئ، لكن هل الأمر كله حلاوة صوت، أم أن هناك أمراً جوهرياً اسمه الشخصية الفنية، والقدرة على الإضافة إلى المشهد القائم؟!

قال حليم إن من يحبون هاني شاكر ويشجعونه من النقاد والفنانين يمتدحونه بمقولة إنه يشبه عبد الحليم أو فيه منه الكثير، وتذكر حليم كيف أنه رفض أداء أغنيات عبد الوهاب وهو لا يزال مطربًا مبتدئًا لا يعرفه أحد، مفضلًا الرهان على أغنياته الخاصة مثل "صافيني مرة" من ألحان محمد الموجي و"على قد الشوق" من ألحان كمال الطويل، وقال بأسف وإشفاق: "بقى لما حد يقول لي إنت نسخة من عبد الوهاب، يبقى ده مدح؟! دي معناها إني أروح أترمي في الزبالة!".

حليم، الذي عرف مع أغنياته الأولى أنه يهدم معبد الطرب القديم ليقيم الحالة الغنائية المتمردة التي أرادها بلا طقوس واستعدادات خاصة، لمس في حديثه المسجل كذلك بعض الأمور الفارقة التي تكشف مقوماته التي لم تتوفر لغيره أو لم يدرك غيره أهميتها ممن سقطوا في بئر النسيان.

ألقى العندليب الضوء بإيجاز شديد للغاية على إشارات موحية، منها رغبته المبكرة في تقديم لون يعتمد البساطة والحساسية التعبيرية والتعمق كبدائل عن القوة والمساحة العريضة والفخامة، وقال إنه لو قبل بالسائد، لحرم نفسه تقديم الجديد، ولما تمكن من مسايرة القديم.

عبد الحليم حافظ، نظرية بذاتها في الغناء والموسيقى، يمكن مقاربة الغوص فيها بالتسليم بأنها خارج الأطر الجاهزة للنظريات والتنظير، ولا يعني ذلك غياب الوعي المعرفي والدرس الأكاديمي بطبيعة الحال، لكن على المعرفية ألا تجرح براءة التشكّل، وألا تفسد خميرة التخلق النشطة.


من ملامح التجربة كذلك، التي اتخذت صفة المؤسسية باستقطاب حليم لموسيقيين وموزّعين صبوا أنغامهم في الاتجاه ذاته، أن الوصول إلى القلوب يكون بارتياد أقصر الطرق، وأن المصداقية شرط الفن الأول، ومن الممكن إدراكها بإهمال الزخارف، وتغليب العناصر الجمالية الموجودة بذاتها في الصوت كهبات إلهية، على حساب الصنعة والتثقف.

كم من الأكاديميين يظلمون عبد الحليم بمحاولات فاشلة كل عام لترصّد أسباب تفوقه وخلوده كمعجزة فنية، بأحاديث خائبة عن التوقد الذهني والدأب في العمل والاجتهاد في تجويد الصناعة وما نحو ذلك، فضلًا عن ربط أعماله الرومانسية بروح الشباب ووطنياته بطموحات ثورة يوليو وشخصية جمال عبد الناصر، وكأن هذه المعطيات (على أهميتها وإفادته منها بالفعل) لم تكن متوافرة لدى آخرين من المتحققين في ساحة الغناء، وما أكثرهم وقتها، وكان لهم منها نصيب.
لقد تعامل حليم، دون غيره، مع الغناء كعملية حيوية، اعتيادية، مجانية، شأن التنفس والحركة، يمكن لأي إنسان القيام بها، وحرص على توسعة دائرة المشاركة لأغنياته إلى أبعد مدى باختيار مقامات وألحان قريبة يمكن لأي شخص ترديدها معه بدون نشاز، فهي مناطق ومساحات لا تقوم على الإبهار والأداء المعجز بما لا يناسب العاديين، وبما لا يتلاءم مع حدود وطبقات صوته هو أيضًا.

عرف حليم أن المغامرة التي تخصه وحده يبقى نجاحها منعقدًا في الأساس على تلك الحساسية الفائقة لديه في التعبير الاستقصائي عن أقصى ما تتيحه الكلمة المغناة، والوهج الجمالي الخام الاخاذ الموجود بذاته في نبرات صوته لا المُشتَغَل عليه، أي مفردات الكيف الممنوحة بفيوضاتها وبتأثيراتها المذهلة لا لوازم الكمّ الاستعراضية، واستثمار منطقة العذوبة محدودة المساحة بأن تكون عنوانًا للثراء والتكثيف والتركيز، وتضاف إلى ذلك لطافة الحضور ورقته في التمثيل.

في مرحلة من مراحل السينما بمصر، نهضت الأفلام على أداء التلقائيين، الذين بُني نجاحهم الفني على نقلهم إلى الشاشة شخصياتهم الحقيقية أو تلك التي ابتكروها بأنفسهم أو اختاروهم لأنفسهم، وليس على براعتهم في فن التقمص، وانحصروا بالطبع في هذه الشخصيات المحبوبة مدى الحياة كونهم لم يدخلوا السينما من باب الاحتراف أصلاً.

قدم عبد الحليم كممثل دورًا واحدًا هو وجهه الحقيقي أو الذي اختاره في حياته الفعلية ليكون واجهة يطل بها على الناس، ويتسللون عبرها إلى خصوصياته ودواخله، وانخلع الوجه العاشق ذاته وصفة التمثيل على ما يجسده من كلمات مغناة مشتعلة، فصارت أغلبية العبارات والمفردات في أغنياته قائمة على التشخيص، وإفساح المجال لذلك الوجه ليبث شجونه وتنهداته من خلال سيناريو متكامل، يتعايش معه المتلقي الذي قد يجد ذاته في قلب الحبكة الدرامية، مثلما أنه يستطيع بسهولة "الدندنة" مع حليم بدون الخوف من التعثر، إذ لا توجد نتوءات أو مطبات صعبة.

عبد الحليم حافظ، هو الكلمة الآتية من طبقات أعمق وأخصب من الحنجرة، ولذلك لا تقف عند حدود الآذان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها